مزاج عال

مزاج عال


من منّا لا ينزعج من أشياء أو نمرّ بظروف مزعجة خلال اليوم؟ ربما تختلف الظروف وحجمها وحِدّتها، ومن الطبيعي أن تتذمّر باعتبارك انسان.. لكنني أبحث عن طريقة للتخلص التدريجي من هذا التذمر أو ألا يؤثر بشكل كبير على المزاج والصحة، أو سير اليوم بشكل عام.

بدأت الفكرة تتبلور بشكل أكبر خلال الرسائل الصوتية (أكثر النعم التكنولوجية التي أهتف لها) التي كنت أتبادلها مع رحاب، كنا نتحدّث عن إمكانية الفصل بين أخطاء الآخرين وتأثيرها علينا، سواء كان ذاك الخطأ تجاهنا شخصياً أو مَن حولنا. طريقتي بدائية للغاية –رغم تأثيرها الشخصي العميق– تتمثّل في تذكير نفسي أن لا شيء يستحق كل هذا العناء والانجرار وراء الاستفزاز أو التأثر به. كيف؟ وضعت خلفية سطح المكتب صورة ملتقطة لنجوم محببة إليّ ومكتوب على طرفٍ منها “لا تدع الأغبياء يُتلِفون يومك / Don’t let idiots ruin your day“، على الرغم من كونها تبدو عنجهية للوهلة الأولى، لكن لها تأثيرها الجيّد في تلك المواقف. تساعدني بشكل أكبر في المواقف الصعبة التي أواجهها خلال العمل.

كيف نحمي مشاعرنا من أجل مزاج عال

أمرٌ آخر كنا نتحدّث عنه؛ كيف لا نتأثر بمشاكل الأصدقاء أو العائلة؟. يحدث كثيراً أن نستمع إلى مشاكل المقرّبين منا، ونظن أنه من واجبات القُربة أو الصداقة أن نتعاطف معهم ونهتمّ لما يهمّهم. لا يعني هذا بالطبع أن نكون بشراً قُساة، لكن ألا نتحمّل من همومهم أكبر من طاقتنا، بالأصح؛ ألا نتحمّلها أو نهتم بها أكثر منهم شخصياً. تحدّثت رحاب عن مشاكل العالم والحروب والناس وكيف تؤثر عليها، وكأننا نمتصّ ما حولنا من مشاعر سلبية. وعلى العكس، لا يدرك الكثيرون أننا –كأفراد– لنا مشاكلنا الخاصة ومشاعرنا ونادراً ما يستمعون إلينا لأنهم اعتادوا أننا “اسفنجات” تمتصّ مآسيهم وتحلّ مشكلاتهم. لا يمكننا حقيقة لَوم من حولنا إن كنّا قد منحناهم ذاك الانطباع – خاصة حينما يرتبط الأمر في كيفية تناولنا للأمور بمفهوم “إن لم أقم بذلك فلن يقم به أحد”.

صديق قديم كنت أحكي له أنّ أموراً كثيرة متراكمة في البال، وأن عليّ حل مشكلات أو تحمّل مسؤوليات ما، فاجأني حين أخبرني أنها ليست مسؤوليتي. لن تتأثر حياتهم سلباً إن لم أقم أنا بحل مشكلاتهم أو تتأثر إيجابياً إن فعلت. آلمني أنه كان صادقاً! نسيت كل تلك الفترة أن الانسان خُلِق قادراً على التكيّف بناءً على بيئته، ولديه القدرة التامة على حل مشكلاته الشخصية والخروج من ورطة ما حتى وإن ظنّ غير ذلك، بحسبة بسيطة وهي الرغبة الطبيعية في البقاء على قيد الحياة. تذكّرت أن الهدف من مشاركتهم مُعضلاتهم معنا هو بحثهم عمّن يستمع إليهم، مَن يشاركهم الهم لا أن يتحمل أو يحلّ مشكلاتهم.

لمَ يهمّ أن تكون في مزاج عال

حسناً.. لمَ هذا الأمر مهم في الأساس؟ لأننا بحاجة إلى هذا العزل، إلى نحمي أنفسنا قبل أي شئ وأحد، أن نحدّ من تأثير الأمور السلبية على ذواتنا فلا تتأثر نفسيّاتنا بطريقة سيئة تمنعنا من الاستمتاع بيومنا أو حتى إكماله بنفس هادئة، وبطبيعة الحال حتى لا تتأثر صحتنا سلباً. هذا العزل مهما كانت طُرقه –كما تقول رحاب– سيمنحنا القدرة لنعود نحن من جديد، بنفسيّاتنا الهادئة وروحنا الطيبة حتى نستطيع أن نمنح من جديد. لأننا مع كل تلك التأثيرات السلبية المحيطة بنا نفرغ تدريجياً، ونصبح غير قادرين على المنح أو التعاطف مع الآخرين.

شاهدت مقابلة قديمة مع أوبر وينفري تتحدّث في جزء منها عن أهمية الاهتمام بذواتنا، تقول في إحدى النقاط: “لا يمكنك منح شيء ما لا تملكه، لذا عليك أن تحافظ على نفسك ممتلئاً“. تتذكّرون “فاقِد الشيء لا يُعطيه”؟ هو كذلك. ثم تتابعYour real work is to figure out where your power base is and to work on that alignment of your personality, your gifts you have to give, with the real reason why you are here“. 

حلول من أجل مزاج عال

حلول؟ بالطبع ليست عامة، لكنها من واقع تجربتي أو تجارب الأصدقاء.

  • التنفّس

قد تبدو الفكرة غير منطقية لأننا نتنفس بشكل آلي مادمنا أحياء! لكن التنفس التلقائي يصل إلى الرئة فقط ودون أي تركيز منا كأي عملية أوتوماتيكية تقوم بها أعضاؤنا. ما أعنيه هنا التنفس بوعي “conscious breathing“. التنفس العميق يعطي إشارات للمخ بالتأنِّ، والاسترخاء ليتمكن من استيعاب ما يحدث على الأقل. تهدئة ذاك الرتم السريع الذي يسير عليه يومنا. حين نتمهّل في تلقّي ما يحدث حولنا فإن ذلك يساعد بشكل كبير على التحكم في ردود أفعالنا واتخاذ القرارات. عِوضاً عن ردود الأفعال السريعة التي قد نندم عليها مستقبلاً.

ساعدني التنفّس العميق بشكل أكبر في تصفية ذهني صباحاً والأهم قبل النوم. وهو ماساعدني على النوم بشكل أفضل. خلال قراءاتي وممارساتي وجدت أن التنفس العميق والبطيء يساهم في خفض ضغط الدم، وتقوية التركيز للتغلّب على المشاكل. أسهل عملية للتنفس الواعي هي أخذ نفس عميق (شهيق) إلى امتلاء البطن مع العد إلى ٣، حبس النفس قليلاً، الزفير بإخراج الهواء من الفم مع صدور صوت أشبه بالتنهّد (ااااااه) مع العد إلى ٥. كرر العملية ثلاث إلى خمس مرات. وربما أكثر ان احتجت. ليس هناك وقت محدد لهذا التمرين طبعاً، يمكنك تكراره كلما احتجت إلى قليل من الاسترخاء خلال اليوم.

  • خمس ثوانٍ مانترا

تناقشت الأمر مع Anna مدربة اليوقا قبل أشهر، واقترحت عليّ تمريناً قد يسهّل التعامل مع مثل هذه الأمور. تتلخّص فكرتها في التحكّم بما نفكّر به خلال الثواني الخمس أو العشر الأولى من اليوم. تلك المدة البسيطة التي يكون فيها الدماغ مابين النوم واليقظة من شأنها التأثير على التحكم بسير اليوم بأكمله. حرصت عليها بدل أن ألتفِت تلقائياً إلى هواتفي وقراءة الرسائل، أو التنقّل بين المواقع الاجتماعية لأنها أكبر مصدر للأمور السلبية. وليس من الجيد أن أبدأ بها يومي.

كبديل؛ كنت أبدأ اليوم بالتنفس بعمق لعدة مرات. أردد mantra تناسب ما أريد التخلص منه، أو الهيئة التي أريد أن يكون عليها يومي مثلاً. وكأنها رسائل للعقل من شأنها خلق نية إيجابية لليوم والتركيز عليها. اتبعت نصيحة Anna منذ ذلك اليوم وكانت الـmantra التي أرددها خلال تلك الفترة “I let you go with loving kindness“، ومنذ ذلك اليوم بدأت أمور كثيرة تتغير في مسار اليوم وتجعلني في مزاج عال. أثرت بطبيعة الحال كثيراً على أمور حيوية.

طبّقته كذلك خلال ساعات العمل حين نمرّ بضغوطٍ ما. أو أن يتأخر موظّفي في تسليم أعمالٍ ما من شأنها تأخير مشروعات أو تقارير أعمل عليها. كنت أتأثر كذلك بعمل الآخرين الذين قد لا يؤثرون بشكل كبير في تأخير أعمالي، لكنها كلها تصبّ في قالب مشروع واحد، وقد لا أكون مسؤولة عن المشروع بشكل كامل. أصبحت أذكر نفسي دائماً بـmantra مضحكة مترجمة عن المثل البولندي “not my circus, not my monkeys“، لأنه في الأخير ليس من المعقول أن أحبِط نفسي وأكرّس طاقتي التفكيرية أو أتأثر بمشكلة لا سيطرة لي عليها.

  • هواية ما، كالرسم مثلاً

لجأت إليه رحاب كإحدى العلاجات أو الحلول لتهدئة نفسها وشحن الذات. رحاب ترسم يومياً في “دفتر الامتنان” عن النعم التي تحيط بها. لاحظَت تكرار أمور فيها مثل: شاورما لذيذة، قهوة دافئة، ضحكة أخوتها الصغار، صوت عصفور… تظل نعماً تذكّرها أنها غارقة فيها، ولم تُحرم منها رغم بساطتها، وربما يكون غيرها غير قادرٍ على تكرارها أو حتى ملاحظتها والاستمتاع بها. “دفتر الامتنان” رغم بساطته وفكرته وبساطة رسمها فيه أشبه بنقطة البداية، التي هي أصل وبداية كل شيء جميل، ومنها تتفرع وتمتدّ لأمور أكثر جمالاً ودهشة. يكفي أن نعود إلى الصفحات السابقة منه لندرك كمّ الجمائل في حياتنا التي تستحق الشكر والامنتنان.

شخصياً؛ لا أجيد الرسم ولم أجرّبه. لكنني مؤمنة بأهمية اتخاذ هوية ما تساعد على شحن طاقتنا الذاتية، وتشعرنا بإنسانيتنا. الزراعة مثلاً من إحدى الأمور المحببة إلي، وإن كنت أسكن في مساحة صغيرة على أطراف المدينة. ساعدتني الزراعة على المحافظة على مزاج عال خلال اليوم. والذي يعني التركيز بشكل كبير فيما أقوم به. مثلاً؛ لا يمكنني مثلاً لمس هاتفي ويديّ ملطختين بالتراب والسماد. غَدَت الصباحات أكثر أوقات اليوم متعة حين أنظر إلى الأوراق الخضراء في الشرفة، وصباح السبت بالنسبة لي بات أجمل حين أقوم بتنظيف الزرعات الصغيرة وتقليب تربتها. وضعت تدوينة هنا عن كيف ساعدتني الزراعة على تحسين مزاجي، وعن نعناعة التي تنعش صباحي كل يوم..

مزاج عال

في النهاية، تذكّر..

“تنفس.. سوف تكون على ما يرام. تنفّس وتذكر أنك كنت في هذا المكان من قبل. لم تكن مرتاحاً، وكنت قلقاً وخائفاً، لكنك نجَوت. تنفس واعلم أنه يمكنك التغلّب على هذا أيضاً. لا يمكن لهذه المشاعر كسرُك. إنها مؤلمة ومهينة، ولكن يمكنك التأقلم معها، وفي نهاية المطاف، سوف تمر. ربما ليس على الفور، ولكن في وقت قريب جداً. إنها ستتلاشى، وعندما يحدث ذلك، ستنظر إلى الوراء حيث هذه اللحظة وتضحك على التشكيك في قدرتك على الصمود. أعلم أنه شعور لا يطاق الآن، ولكن حافِظ على التنفس، مراراً وتكراراً. سيمرّ. أعدك أنه سوف يمرّ.”

أسما قدحAuthor posts

Avatar for أسما قدح

Malaysian Travel Blogger on #TRLT. En-Ar Translator & Content Writer | مدونة ومترجمة ماليزية رحالة في الطرق الأقل سفراً

1 تعليق

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *