العزلة في جزيرة لنكاوي

العزلة في جزيرة لنكاوي


كانت العزلة في جزيرة لنكاوي تحدّياً جديد أردتُ تجربته في ٢٠١٦، ضمن قائمة أشياء أريد فِعلها قبل الخامسة والثلاثين. تنطوي هذه التجربة على الإقامة في كوخ خشبي على إحدى الشواطئ في جزيرة لنكاوي. كان قراراً جنونياً بما فيه الكفاية، خاصة وأنني أخاف من الحشرات والحيوانات الصغيرة. ويزعجني مجرد رؤيتها في خارج زجاج البلكونة. كنت أواسي نفسي بأنه ليس من السهل أن تعود إلى طبيعتك كإنسان بعد أن دمّرتك المدينة على أية حال.

العيش متخففاً في جزيرة لنكاوي

لماذا العزلة في جزيرة لنكاوي؟

لأنها الجزيرة الوحيدة التي زرتها أكثر من مرة فلن أتوه في منعطفاتها. ولأنها الجزيرة الأقرب إلى قلبي، ولاعتقادي بأنها الأكثر أماناً. زرتها مع والدتي في سن الحادية عشر. ثم مرات ومرات على فترات متعددة خلال السنوات الست عشرة التي قضيتها هنا. كل زيارة أو رحلة تعرّفني بموقع أو مكان ما جديد أكتشفه فيها. سوق، مطعم، غابة، شاطئ، أناس… وأردت هذه المرة أن أبتعد عن شاطئ تشينانغ، أكثر شواطئها ازدحاماً بالسواح. اخترت منتجعاً سياحياً غير معروف للكثير. يقع على امتداد شاطئ باسير بانجانغ في جزيرة Tuba، على مسافة ١٠ دقائق على قارب سريع.  

العيش متخففاً في جزيرة لنكاوي

السكن في الكوخ الخشبي

كانت العزلة هي الحل الأخير لدي. لاعتقادي بأنّ كلاً منا في حاجة إلى عملية تنظيف (تطهير) مما نعتقد أنه مؤذٍ. ولأن العيش متخففاً من كل ما نظنّه مهماً في حياتنا، أو ما نعتقده أساسياً لتسهيل حياتنا أصبح -في الحقيقة- عِبئاً نحمِله على عاتقنا كل يوم. ثم، وهو الأهم؛ لأن الحياة المدنيّة أرهقتني بما فيه الكفاية. فحتى أتمكن من النوم أصبح لزاماً علي الاستماع إلى كتاب وتغطية عيني بقناع للنوم حتى أشعر بالعتمة الحقيقية.

بيتنا في كوالالمبور على ارتفاع ١٨ طابقاً. يطل على أهم شوارعها وطريق سريع. يمكنني مراقبة الطرق والجسور التي يطل عليها البيت لمعرفة حال الزحام. ويمكنني كل يوم تقريباً التنبؤ بالوقت المناسب للخروج من البيت حتى لا نعلق في زحام مروري. صحيح؛ من صالة البيت يمكنني رؤية برجي KLCC أو برج كوالالمبور. ويمكننا أيضاً رؤية الألعاب النارية ليلة رأس السنة أو يوم الاستقلال. لكننا كل يوم ننام ونصحو على أصوات محركات السيارات والدراجات النارية.

هذه الحياة المرهِقة أثّرت كثيراً على نومي بشكل كبير. فلا نوم مستمرّ لثمان ساعات. ناهيك عن الاستيقاظ كل يوم في الرابعة والنصف حتى الخامسة والنصف. أصبحت مرهقة دماغياً. وأثّر كثيراً على تركيزي في العمل وقراءاتي. أصبحت أملّ أو أنتقِل عبر الصفحات أو أجهزة القراءة والمشاهدة دون أن أتذكر معلومة واحدة أو اسماً. 

Booking.com
العزلة في جزيرة لنكاوي

العزلة في جزيرة لنكاوي

كانت المدة ثلاثة ليالٍ و أربعة أيام. كافية باعتقادي للتركيز وشحن الذاكرة، وإنهاء كتابٍ واحد على الأقل. ولأنها رحلة غير مرتّب لها من قبل، لم أؤكد الحجز في هذه الفلل إلا خلال يومين من موعِد السفر. تذكرة السفر كانت أغلى من مجموع السكن ومصروفات الإقامة والأكل. المواصلات البرية/التاكسي في لنكاوي من جهة أخرى أخذت حيزاً كبيراً، خاصة للتنقّل بين المطار إلى الميناء. أو الميناء إلى الشاطئ السياحي. قِصر المدة والرغبة في التخفف ساعداني على تقليص ما سأحمِله. لم أحمِل معي إلا حقيبة ظهر واحدة جمعت فيها مقتنياتي كاملة. تشتمل: أدوات الحمام، ملابس النوم، ملابس السباحة، وملابس الذهاب والعودة. والآيباد للقراءة. 

العيش متخففاً في جزيرة لنكاوي

شاطئ باسير بانجانغ في جزيرة لنكاوي

خالٍ من أي أنواع الترفيه عدا قارب Canoe. هذا ما كنت أرغب به، بعيداً عن مؤجّري الدراجات النارية وألعاب الماء. مُلحق بالمنتجع مطبخ صغير تقوم عليه فتاتان، يقدم فيه الوجبات اليومية ومشروبات. قائمة طعام صغيرة وقصيرة جداً لكنها تكفي في مكانٍ كهذا. لا انترنت. هذا كان طلبي الأول. هاتفي كان متصلاً بأقل قدر من الانترنت/3G، وأخبرت أنتوني أنني قد لا أرد على رسائله طِوال اليوم. شبكة الهاتف جيّدة على كل حال. 

هل حدث وأن نمت إلى جانب البحر، فعلياً؟ كانت النقطة الأكثر تأثيراً في الرحلة؛ أنني نمت بعمق. لم يحدث هذا الأمر منذ عودتنا من أستراليا مطلع العام. وعلى الرغم من قلقي تجاه التعوّد على السرير الجديد والمكان، ولربما ساعد صوت الأمواج على تهدئتي طِوال الليل.

أسلوب حياتي الذي تغير في السنة الماضية كان له أثر كبير على الاسترخاء خلال الأيام الثلاث. لا طعام بعد الثامنة مساءً، والنوم في العاشرة ليلاً (قد نتجاوزه في الاجازات الأسبوعية حتى الحادية عشر ليلاً). الاستيقاظ بلا ساعة منبّه. ساعتي البيولوجية والعمل اليومي عوّداني النوم في العاشرة ليلاً، والاستيقاظ في السابعة صباحاً كل يوم. نعم، حتى الإجازات الأسبوعية.

لجلسات التأمل؛ 

استعنت بتطبيق Omvana للتمرّن على شيئين رئيسين: التنفّس، وتعزيز التركيز. وباعتبار أنني لا أملك وقتاً كافياً خلال الرحلة جعلتها جلسات مكثّفة. ساعتين يومياً، إحداها مع الشروق وأخرى مع الغروب.

العيش متخففاً في جزيرة لنكاوي

الروتين اليومي خلال العزلة

صباحاً.. يبدأ اليوم بوجه Princess الجميلة، التي تبادرني بابتسامة وهزّ ذيلها. هذه المخلوقة العجيبة استطاعت تحويلي من تلك الأيام من إنسانة غير صباحية إلى أخرى تقدّر الصباحات والشروق. أخبرها أن علينا نجلس هادئين للتأمل بعد الدقائق التي نقضيها في اللعب. أطلبها أن تسترخِ -أو تدعني على الأقل أن أفعل- لتجلس إلى جانبي بهدوء. تمرين التنفّس يعمل على تنشيط الدم، إزالة التوتّر، والتفكير مليّاً في مجريات اليوم/الحياة. هذا الأمر منحني القدرة على بداية اليوم بدون قهوتي التي نسيت جلبها في الأساس، واستمرّ الأمر خلال الأيام الثلاث. 

يومي هناك مقسّم بين القراءة، الاسترخاء على الشاطئ، والجري مع Princess. كنت أقرأ على الآيباد بتركيز أكبر. قراءتي أصبحت بطيئة عما كنت سابقاً، لا يهم. المهم أنني كنت أقرأ دون أن أطِل بين سطر لآخر على صفحات فيسبوك أو تويتر أو حتى التحدث مع الأصدقاء. أنهيت مايقارب ثلثي الكتاب خلال ثلاثة أيام، وسأعود لاستكماله قريباً بالتأكيد. ثم مساءً.. كنت أستمع إلى تمارين التركيز. ينتهي كل شيء تقريباً في السابعة والنصف حين يكون العشاء جاهزاً، إلى جانب تمرين اليوقا الذي يبدأ في السادسة. 

نهاية كل يوم.. أتحسس ذلك الألم المستمرّ منذ عام أعلى الظهر، خلف كتفي. بدّلت عدداً من الوسائد لظنّي أنها السبب، ارتدتُ عدداً من أماكن المساج والاسترخاء في كوالالمبور، لكنّ أياً منها لم تُشفيني حقيقة. علياء؛ أخبرتني فيما بعد -خلال زيارتها كوالالمبور- أنه أمر حسّي/نفسي أكثر من كونه جسدياً. العجيب؟ أن هذا الألم اختفى تماماً طِوال إقامتي في لنكاوي.

أسما قدحAuthor posts

Avatar for أسما قدح

Malaysian Travel Blogger on #TRLT. En-Ar Translator & Content Writer | مدونة ومترجمة ماليزية رحالة في الطرق الأقل سفراً

لا تعليق

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *