كهف كونغ لور الواقع في قرية هادئة بهية عُرفت بكهفها، كانت آخر محطاتي في لاوس، وأفضلها. القرية التي لم أكن أتوقّع أنها بهذا الجمال الأخّاذ، والتي سلبت قلبي كله، وجعلتني أحب لاوس أكثر من قبل. هنا عشت أجمل أيامي وأهدأها في لاوس، بعد الكثير من الصخب والناس والمسافرين. مقارنة بالكثير من مناطق لاوس المعروفة مثل لوانغ برابانغ وفيانتيان كانت هي أبهاها. لم أكن قد سمعت بها من قبل، وكانت زيارتي لها دون أي تخطيط مسبق. كنت في الأصل أريد مغادرة لاوس إلى كمبوديا براً، كان عليّ الانحدار جنوباً حتى أستطيع عبور الحدود. أخبرني “ستان” و”هاقاي” الذين قابلتهم في فيانتيان عنها ونصحاني بالمكوث عدة أيامٍ في كونغ لور.
لمَ أحب قرية كونغ لور؟
اكتشفت فيما بعد أنها القرية المنسية. يؤمها المسافرون والرحالة عادة لقضاء أيام قليلة ضمن دائرة صغيرة لأجمل المناطق السياحية في لاوس. لكنهم عادة لا يوفون كونغ لور حقها. فهي كقرية بدائية وبعيدة ومنقطعة عن العالم تظل صعبة على البعض. لكنها في حقيقتها تستحق كل تلك الصعوبات للوصول إليها. في كونغ لور، كل شيء على أصله. الطبيعة، الناس، والحياة. كل شيء يسير ببطء. وكل أمر من الممكن أن يحدث، فهو متوقّع.
تعرف على قرية وكهف كونغ لور
هي قرية صغيرة أصبحت أكثر شهرة بالكهف الذي يسمّى باسمها. تضم القرية عدداً قليلاً من المساكن، ومع ازدياد الزوار، أصبحت بها أعداد من القنادق والمنتجعات وبيوت الضيافة التي تحتوي على مطعم خاص بها. كونغ لور (Kong Lor/Konglor) مجرد قرية صغيرة، بعيدة عن مسارات المسافرين عادة، يتوقف عندها الرحالة قليلاً بعد انطلاقهم من منطقة Thakhek، وتحيط بها مشاهد ومناظر طبيعية مذهلة. أضف إلى ذلك بالطبع وجود كهف كونغ لور، الذي يعدّ ظاهرة جيولوجية مذهلة. فكهف كونغ لور يصل طوله حوالي 7.5 كيلومتراً داخل الجبال. هذه الحقيقة وحدة جعلتني أشدّ الرحال إلى القرية. لأفاجأ فيما بعد بأنها ليست مجرد منطقة عبور. بل ما فيها كان أكثر مما أتوقع.
نصيحة: احمل معك مبلغاً كافياً إذا قررت قضاء عدة أيامٍ في كونغ لور. فلن تجد أي ماكينة صرّاف في القرية.
حكاية وصولي إلى قرية كونغ لور
كمعظم الحالات في لاوس حينما يتعلّق الأمر بالمواصلات، توقّع ماهو غير متوقع! الطريقة الوحيدة للوصول إلى القرية هي الحافلات بالطبع. لم أكن أريد حجز أي رحلات خاصة عبر الشركات السياحية في لاوس، على الرغم من عملي مع إحداها حينها. كنت أريد عيش التجربة الحقيقية التي يعيشها السكّان المحليون. انطلقت من محطة الحافلات الجنوبية في فيانتيان (تجدون موقعها على هذا الرابط). يمكنكم إما شراء تذاكر الحافلة من الفندق أو بيت الضيافة، مع خدمة التوصيل إلى المحطة. أو حجز سيارة أجرة أو حافلة أخرى للوصول إلى محطة الحافلات هذه وشراء التذاكر بأنفسكم. بالنسبة لي؛ طلبت من العاملة في السكن المشترك أن تحجزه لي، بما أنني أريد حافلة صباحية. كان سعرها 120 ألف كيب (حوالي 14 دولار).
الرحلة الطويلة
انطلقت الحافلة في العاشرة صباحاً، وكان من المقرر وصولنا بعد 8-9 ساعات. الطريق في مجمله وعِر في جنوب لاوس، والوصول إلى كونغ لور بالحافلة يعني التوقف للحظات في محطة Na Hin. لم تكن محطة أساساً، كانت موقفاً لعدد من الحافلات المحلية، ومنها تنطلق كل الرحلات إلى القرية. لا أذكر الآن إن كانت الرحلة متعبة أم لا، ما أذكره أن الطريق لم تكن معبّدة بالكامل، فيما كنت منشغلة بكل المناظر الجميلة في الخارج. كل شيء حولي كان أخضراً وبهياً، كل شيء في الخارج يستحق أن تبقى متيقّظاً لتراه بعينيك.
بعد أن وصلت Na Hin، صعدت في حافلة محلية أشبه بسيارات الوانيت، خصصت لنقل الناس والبضائع في نفس الوقت. كان الطريق غير معبّدٍ هنا، والكثير الكثير من الحفر والحجارة الصغيرة. كانت الشمس تغرب رويداً رويداً، وبدأت السماء تمطر. نزل كلّ سكان القرى المجاورة قبلي، وبقيت في الخلف وحدي، فيما كان السائق وزوجته في المقدمة. في الطريق إلى قرية كونغ لور، رأيت أبقار وخنازير وحيوانات أخرى على جنبات الطريق، كانوا عائدين إلى بيوتهم ومزارعهم بعد يوم طويل ربما! قطعنا مسافة 45 دقيقة أو ساعة تقريباً، ووصلت الفندق الذي كنت قد حجزته مسبقاً مع غروب الشمس.
هل كنت خائفة؟ نعم! كنت وحدي. ولم يكن أحد حولي يفهم أي كلمة انجليزية، ولا أعرف لغتهم طبعاً. كان الطريق يُظلم شيئاً فشيئاً، ولم يكن باستطاعتي رؤية أبعد من مترين. المكان منقطع بكل مافيه، كل ما أراه بعيداً جبال ضخمة، ومساحات ممتدة من اللون الأخضر.
النوم وسط حقول الأرز في قرية كونغ لور
استأجرت غرفة مشتركة في Thongdam Guesthouse. وجدته أفضل ما في المنطقة من ناحية التقييمات على Booking.com وبسعر جيد شاملاً الإفطار. كنت محظوظة بسفري خلال شهر سبتمبر، فهي أقل أوقات السفر والزحام. كانت الغرفة كبيرة، تحتوي على 4 أسرّة. وكنت بالطبع وحدي المقيمة في الغرفة!. ملحق بالغرفة بلكونة صغيرة بها أرجوحة (hamock) كانت مكاني المفضل فيما بعد للقراءة ومراقبة الغروب.
وبما أنني وصلت بعد غروب الشمس مباشرة، لم يكن هناك أي نشاط من الممكن عمله ليلاً. أخبرتني صاحبة بيت الضيافة أنني سأكون وحدي في الغرفة. هناك رحّالة آخر مقيم في نفس بيت الضيافة، لكنه كان في جزء آخر منها. كانت وجبة العشاء بسيطة للغاية، ببساطة الموارد المتوفرة في القرية. المطعم الصغير الملحق بالمسكن يوفر وجباتٍ محلية وعالمية. لا أدري في الحقيقة إن كان مطبخ لاوس ذو أطباق محدودة، أم أن اللغة كانت عائقاً لاكتشافه. كنت غالباً في لاوس أعتمِد على الاطباق التي أعرفها. الوجبات المشوية أو الأرز والمعكرونة المقلية المحلية.
هنا.. كبرت!
على هذه الشرفة، قرأت جزءاً كبيراً من كتاب أنتوني بوردين الذي كان رفيقي طوال الرحلة. هذه الغرفة بكل المنظر البهيّ خارجها وحولها ذكرتني ببيت جدتي القديم. بيت مبني على أعمدة قوية وبأرضيات خشبية. منظر حقل الأرز أخذني بعيداً جداً في الصباح وأنا أتأمله. ثم مساءً كنت لا أحتاج إلى أي موسيقى أو أي صوت حتى لا أمزّق هذا السكون الجميل. كنت محظوظة أكثر بنقاء السماء تلك الأيام. رأيت القمر ظاهراً في البعيد. جميلاً، كرفيق اشتقت إليه في ذلك المكان.
ربما كانت اللعنة الأسوأ في السفر وحيدة أنني لم أكن أستطيع مشاركة كل ما أراه مع مَن أحب. لم أكن أستطيع حينها أن أوصِل جمال المكان لمَن أريدهم أن يكونوا هناك. هنا في هذا المكان كنت مستمتعة في خلوتي. كنت بشكل لا أفهمه سعيدة كوني في هذا المكان. وحزينة في نفس الوقت. صباح اليوم التالي، تناولت إفطاري في المطعم الملحق بالمسكن. كان إفطاراً بسيطاً للغاية. كان الأهم فيه قدرتي على مراقبة المكان حولي، والبطّات تسير مع صغارها.
حفلة الوصول إلى كهف كونغ لور
بعد انتهائي من الافطار مباشرة، بدأت طريقي لزيارة كهف كونغ لور. المسافة بين القرية أو السكن الذي كنت فيه والكهف لا تزيد عن كيلومترٍ واحد. كان عليّ المشي في طريق واحد، هو الطريق الرئيسي للوصول إلى كهف كونغ لور. كنت لاأزال مأخوذة بكل ما حولي. القرية تستيقظ ببطء هذا الصباح، وكل صباح. الأطفال في طريقهم إلى المدرسة الوحيدة في القرية. والعاملين في دراجاتهم النارية، أو سيارات بدائية مخصصة لنقلهم.
صادف مشيي وجود مجموعة من السكان المحليين كانوا متوجّهين كذلك إلى الكهف. كانوا يحملون معهم آلة Dong الموسيقية الكبيرة. وحينما انتبهوا إلى تصويري للمكان، كانوا يضربونها لتُحدِث صوتاً عالياً. وصلنا إلى بوابة الغابة الملحقة بالكهف وسط ضحكاتهم وابتساماتهم التي أحب. كانوا يتحدثون معي بلغتهم وكأنني أفهمهم. عبر لغة الإشارات، فهمت أنهم يسألونني عن وجهتي.
سألني أحد العاملين في بوابة الكهف من أين أنا؟ ماليزيا، أردفت. وكان يردد كوالالمبور فرِحاً!
أكملنا السير داخل غابة فارغة وكبيرة جداً. هناك مسار محدد مختصر، يبدو أنه الوحيد الذي يقطعونه. سرت معهم في أرضٍ طينية. كنا مازلنا نتشارك الضحك والتصوير وتصفيقي لأغانيهم. ثم وصلنا أخيراً إلى نقطة مخصصة لركوب القارب. انتظرنا هناك حتى يصِل آخرون من القرية، والذين كانوا مسؤولين عن النقل. عرِفت فيما بعد أنها وظائف مخصصة للشبّان غالباً. هم أشبه بمرشدين وسائقين لمن في القرية داخل الكهف.
رحلة القارب لدخول كهف كونغ لور
بما أنني الوحيدة في ذلك المكان وقتها، ولم يصل أي من المسافرين بعد، وضعوني في قارب مخصص لي وحدي. معي شابّين، هما مرشديّ والعارفين بكل أجزاء الكهف. يستلزم دخول كهف كونغ لور عبور نهر يمرّ وسطه، يصل إلى حوالي 7.5 كم، ويمكن المرور به بالكامل. يعد نظام كهف النهر من أطول الأنظمة في العالم، إن لم يكن الأطول. تتوفر في المكان قوارب طويلة مزودة بمحركات تأخذ الزوار من خلال الكهف لمشاهدة الكهوف وتشكيلات الحجر الجيري البديعة. هناك أيضاً مسار مخصص للمشي على الأقدام، مضاء بأنوار تزيد المكان جمالاً. فيما يمكن استكشاف بقية المكان عبر الإضاءات الصغيرة التي يوفرونها لك لترتديها على رأسك. بعد المشي في المكان المخصص، ركبنا القارب مرة أخرى لنكمل طريقنا في النهر.
سكون..
كان التجويف داخل كهف كونغ لور وحده حكاية أخرى. كلما قطعنا مسافة داخله، كلما زادت برودة المكان. هنا، لا شمس أو إنارة أبداً. كان مظلماً، وكنت أعتمِد بشكل كبير على الإضاءة التي معي لرؤية هذه التجاويف البديعة. لم أكن أستطيع حتى التصوير لشدة ظلمة الكهف. على الرغم من صوت محرّك القارب، كان هناك شيء من السكون. هدوء يأخذك بعيداً، وأنت تسمع صوت الماء تحتك فيما الظلمة تغطي المكان. كتجربة شخصية، كان هذا الكهف الأجمل والأفضل بالنسبة لي. الظلمة، وصوت الماء، والأحجار الجيرية كلها تعطي المكان نوعاً فريداً من الجمال. زرت الكثير من الكهوف خلال السنوات الماضية، لكنني لم أرَ شيئاً مثل كهف كونغ لور. ولم يسرق قلبي جمال مثل جماله.
نصيحة.. في موسم الأمطار (وغالباً في أوقات أخرى) سيقطر الماء من سقف الكهف، لذا يجب عليك ارتداء ملابس مناسبة، وكن مستعداً لتغطية الكاميرات. سيتم توفير سترات النجاة وعليك ارتداؤها أوحملها معك دائماً.
ما بعد كهف كونغ لور
بعد خروجنا من الكهف، وجدت نفسي في الجزء الآخر من النهر. هنا غابة أخرى تابعة لحديقة Phou Hin Bun National Park. وهنا طريق آخر يأخذك إلى قرية أخرى صغيرة. وصلت بعد السكان المحليين الذين كانوا يريدون عبور الكهف للوصول إلى هنا. كنت لا أزال أسمعهم يدقّون أجراسهم وآلة Dong التي يحملونها معهم. مشيت قليلاً، ولم أرِد الابتعاد كثيراً عن المكان. تركني المرشدان الشابين لاكتشاف المكان كما أريد. كانت غابة جميلة هادئة. أشجار طويلة كثيرة كانت منتشرة في المكان، لكنها لم تكن غابة كثيفة. هذا المكان كان مثالياً للراحة رغم حرارة الجو. هواء لطيف كان يمر بين وقت وآخر يهزّ أغصان الأشجار حولي.
أكملنا السير بعد تلك الاستراحة القصيرة. سنمرّ مرة أخرى داخل الكهف للعودة من حيث غادرنا. هذه المرة، عرفت جيداً أين يجب عليّ التركيز. وأي النقاط التي يمكنني تصويرها. شعور دخول الكهف مرة أخرى وهو مظلم بعد أن ضوء مشعّ في الخارج كان فريداً كذلك. كنت أنظر حولي وأحاول لمس الأشياء، على الرغم من منع المرشدين بالطبع! لم يكن هناك ما يؤذِ، فقط لا تلمس الأحجار الجيرية. لمست الماء تحتنا، كان بارداً ومنعشاً. يمكنك تخيّل كل شيء سيء في هذا المكان، لكنني سأطمئنك، إنه آمن.
استئناس..
وبما أنني أعرف ما عليّ توقّعه في الكهف الآن، طلبت منهم التوقف أو تخفيف السرعة على الأقل. كنت أستنشق الهواء المعبّأ برطوبة النهر. وكنت أريد استيعاب كل ما يحدث حولي. هذه التجربة التي لن تتكرر أبداً. الدهشة الأولى بكهف كونغ لور.
بعد وصولنا إلى بوابة الكهف، أعطيتهم كل ما عندي من أدوات وفّروها لي. طلبت منهم أن نقضي وقتاً أطول هنا في مدخل الكهف. كانوا هم منشغلين بالتصوير، فيما كنت أنا منشغلة بتسجيل تلك اللحظة في قلبي وعقلي. مازلت حتى اليوم لم أرَ مكاناً سلب قلبي مثله. أحببت كهف كونغ لور رغم تعجب الكثير من المسافرين. هنا شيء غريب لا أفهمه.
كم يوماً يكفي لأن تقيم في قرية كونغ لور
كان من المقرر أن أقيم فيها ليلتين، وقد تكون كافية لبعض من السائحين. ولكنني، ولكثرة دهشتي بالمكان أقمت بها أسبوعاً، وكانت أجمل ما عشته في لاوس. هنا حياة أخرى هادئة وبطيئة تناسبني. هنا ملاذ لمَن أراد الابتعاد عن كل ماهو مزعج في الحياة. رغم الموارد البسيطة في قرية كونغ لور، إلا أنّ كل مَن فيها مبتسم. تراهم هنا هانئين وسعيدين. ينشغلون نهاراً بحقول الأرز والماشية، وليلاً بعائلاتهم. أطفال القرية كانوا يلوّحون دائماً في وجهي لأنتبه لهم. ستسمع كثيراً Hello بأصوات عالية منهم.
غادرت كونغ لور إلى مدينة Pakse جنوب لاوس، وهي نقطة عبور الحدود إلى شمال كمبوديا. هذه تجربة أخرى فريدة من نوعها سأحكيها لكم في التدوينة القادمة.. كونوا بالقرب!
[…] والأكثر رسوخاً في الذاكرة. الأيام التي قضيتها في قرية كونغ لور، ولقاء ديريك، ثم المطعم الذي يقدم أطباق ماليزية الذي […]