نسعى -ككل البشر- في هذه الحياة باحثين بكل الوسائل عما يجعل حياتنا أكثر سلاسة وسعادة. لا أحد يريدها محفوفة بالبؤس أو تظللها تعاسة، أو حتى مجرد تصوّرها بذلك الشكل. تفاصيل اليوم بشكل عام منبعها تلك السعادة التي نعلّق عليها كل الآمال والطموحات والرغبات. إنها جزء من الطبيعة البشرية التي لا يمكن إنكارها، وربما إن أظهَر أحدنا عكس ذلك نعتناه -بكل بساطة- بالمرض. في المقابل؛ تجد في بعضٍ من التعاليم الروحية ما يدعوك إلى نبذ التعلق بأمر أو أمورٍ بحدّ ذاتها. وبدلاً من تركيز كامل تفكيرك وعقلك على أمرٍ بحد ذاته، كن منفتحاً لما تمنحه لك الحياة. تماماً كما حدث لسدهارتا في رحلة البحث عن الحكمة، الذي تحدث عنه هيرمان هسة في كتابه المعنْوَن بذات الاسم.
لم أبدأ في قراءة الصفحات الأولى إلا بعد أن وقعت بين يديّ مقالة قديمة، تتحدث عن الآمال، والطموحات والرغبات البشرية من منظور مختلف. وآثرت هنا ترجمتها لكم.
فنّ عَيش حياة أقل تعاسة
في رواية سدهارتا، التي كتبها هيرمان هسة؛ يذكر قصة سدهارتا، الشخصية الرئيسية في العنوان. والذي قرر مع صديقه مغادرة مسكنه، تاركين ممتلكاتهم بحثاً عن الحكمة والتنوير الروحي. قرّرا العيش على الطريق، بلا مأوى، ومبتعدين عن المعلوم نحو المجهول. إنها ليست حياة سهلة، لكنه أسلوب حياة اعتنقوه. كانا يصومون كلّما جاعا، ويتأملان حينما لا يكونان مشغولان. وعندما يبحثان عن إجابات، ينتظران. وبينما كانا ينتقلان من مكان إلى آخر، يصبحان أكثر تعلقاً وتركيزاً على هدفهم. لكنهما في النهاية انفصلا.
حدث ذلك بسبب اجتماعهما ببوذا نفسه. بعد سماع الأساطير عن الحكيم ثم البحث عنه، تأثر كلاهما بتوازنه الهادئ وعمق تعاليمه البسيطة. يقرر الصديق، جوفيندا، البقاء مع بوذا ليصبح تلميذه، بينما يقرر سدهارتا -على الرغم من تقديره لما تعلمه- الاستمرار في السعي الفردي.
يأخذه هذا السعي عبر المكان والزمان: يستقر في المدينة، ويقع في حب امرأة. وعلى مر السنين، يصبح رجل أعمال ناجحاً. لا ترضيه هذه الحياة طبعاً، ولذلك يقرر أن يغادر هذه المدينة بكل ما فيها. كانت محطته التالية -الأخيرة- منزل صغير بجوار نهر حيث يعيش مع عامل مراكب. هذا الآخر رجل بسيط وهادئ، تحيط به هالة توحي بالحكمة، يستشعرها كل مَن يقابله. يعيش معه سدهارتا، وبعد سنوات عديدة من الاضطرابات والمعاناة من السعي المتواصل، يجد سدهارتا في نهاية المطاف، في لحظة مفاجئة، نفسه في سلام.
المراكبي الحكيم
في نهاية حياته؛ يسمع جوفيندا الذي لا يزال يبحث عن الحكمة، عن عامل مراكب عجوز، يقول الناس أن لديه الإجابة. هذا المراكبي هو سدهارتا، الذي حمل المهمة بعد معلمه القديم. عندما أخبره جوفيندا أنه لا يزال باحثاً عن الحكمة، فإن صديقه القديم -في نهاية الكتاب- يشاركه ما تعلمه بعد كل هذه السنوات. قال سدهارتا:
عندما يسعى شخص ما، فمن السهل ألا ترى عيناه سوى الشيء الذي يبحث عنه، ولا يكون قادراً على أن يجد شيئاً آخر، ولا يأخذ شيئاً لأنه دائماً ما يفكر فقط في الشيء الذي يبحث عنه، لأن لديه هدف واحد، ولأنه مهووس بهدفه. السعي يعني: وجود هدف. لكن البحث يعني: أن تكون حراً، وأن تكون منفتحاً، وليس لديك هدف.
إشكالية التعلّق بأمرٍ ما
تدور أحداث قصة سدهارتا وصديقه في عالمٍ مختلفٍ تماماً عن العالم الذي نعيشه. إنه عالم أبسط، عالم بقوى أقل تأثيراً على العقول. حياتهم وطموحاتهم كانت أكثر بساطة، والهدف الذي كانا يسعيان إليه أيضاً، لم يكن مضراً لهما. الطموح نحو الإنجاز، بشكل عام، أفضل بكثير من العديد من الأشياء التي تشغل رغباتنا في هذه الحياة الحديثة – والتي غالباً ما تدور حول المال والمكانة والمتعة. لكن مِحور المشكلة هو نفسه، وهو أصل كل البؤس الذاتي. السعادة – أو بشكل أكثر دقة، الافتقار إلى التعاسة- هي نتاج العلاقة الموجودة بين توقعاتنا الذاتية والواقع الذي نعيشه. وعبر المدى الطويل، ينبع الشعور بالرضا عن الواقع الذي نعيشه من التوقعات الموضوعية التي نحيط أنفسنا بها. نتأثر ونؤثر بطريقة ما في الشكل الذي تبدو عليه هذه الحقيقة، ولكن هناك أمور خارجة عن سيطرتنا في النهاية. الحل الوحيد إذن هو التحكم في توقعاتنا بالتحكم في رغباتنا الشخصية.
في بعض التقاليد الروحية، مثل البوذية، فإن الإجابة -بشكل عام- هي التحكم في الرغبات، أو القضاء عليها إن كان ذلك ممكناً. لا ينحصر ذلك في الشهوات والرذائل فقط، ولكنها تنطبق أيضاً على الرغبة المؤدية إلى التعلق والبحث المستمر. تماماً كما قضى كل من سدهارتا وجوفيندا حياتهما في السعي لتحقيقها. وبشكل عام، فإن احتمال أن يتخلى الشخص العادي عن رغباته ويبحث عن الحكمة والتنوير هو احتمال ضئيل. ومع ذلك، فإن ما يمكن لأي شخص تعلمه والقيام به -وهي خطوة سليمة في الاتجاه الصحيح- هو توسيع منطقة البحث والتركيز. لدينا جميعاً أشياء نريدها، ولدينا جميعاً رغبات نسعى إلى تحقيقها. لكن العديد من هذه الأشياء قابلة للتفاوض أكثر بكثير مما نصنعها.
بالتأكيد، قد يؤدي كسب المزيد من المال إلى تحسين حياتك، وبالطبع، فإن الفوز بهذه الجائزة أو الحصول على مدح شخص تحبه يجعل الحياة تبدو بشكل أفضل. ولكن إن كان هناك عالم بأشخاص يمكنهم العيش بسلام تماماً بدون هذه الأشياء -وهناك دائماً تقريباً، بغض النظر عما تريده- من المحتمل أن تتمكن من ذلك أيضاً. إننا حينما نرغب في شيء ما، نضع كل تركيزنا عليه. نكرس وقتنا وطاقتنا العقلية، وبهذه الطريقة نخلق هوساً من جانب واحد، يؤدي إلى البؤس في أي وقت لا يتوافق فيه الواقع. ينطبق هذا على الرغبة في أن تكون أكثر ثقة بالنفس كما هو الحال في البحث عن متعة معينة.
الطريقة الوحيدة لعدم الوقوع في هذا الفخ، هي توسيع منطقة البحث والرغبات عندما يحين الوقت. خفف تعلّقك بأمرٍ ما، أو سعيك حتى تتمكن من استيعاب ما يحصل في الواقع الذي تعيشه. وهذا ممكن فعلياً إن كنت على استعداد للتراجع والتخلي. انظر للصورة الأكبر والأشمل، وخفف من توقعاتك.
أسئلة أفضل، حياة أفضل
إحدى الأسباب التي تجعلنا نركز على الأشياء ثم نواجه صعوبة في الاستغناء عنها هو أننا نبدأ بالخطوة الخطأ: حينما نطرح الأسئلة الخاطئة. يدفعك كل شيءٍ تقريباً لاتخاذ أي قرار بمجرد سوال ما، سواد أدركت ذلك أم لا. وقبل أن تندفع بحثاً عن إجابة، عليك أولاً تحديد ما تبحث عنه. معظم الأمور التي نسعى منبعها أفكار مستعارة. واعتماداً على الثقافة التي نشأنا فيها، يتم تشكيلنا بواسطة قوى اجتماعية اقتصادية تشكل طريقة تفكيرنا قبل أن ننضج بما يكفي لنعرف بشكل أفضل. وحينما نكبر؛ تصبح الكثير من هذه الأفكار متأصلة بعمق فينا لدرجة أننا لا ندركها.
سؤال المعنى، على سبيل المثال، هو أحد هذه الحالات. في العالم الغربي، نزداد علمانية بشكل متزايد. الدين آخذ في الانحدار. قد ترى ذلك أمراً جيداً أو سيئاً، لكن في كلتا الحالتين، يفتح هذا السؤال سؤالاً: ما معنى الحياة؟ ما هو، في الواقع، ذو مغزى على الإطلاق؟ لماذا؟ في بيئة يغلب عليها الطابع الديني، تكون الإجابة على هذه الأسئلة واضحة جداً لدرجة أنها حتى لو كانت تشغل عقلك من وقت لآخر، فإنها لا تجعلك بائساً، لأن معتقدك الحالي يعطيك إجابة. لكن في بيئة علمانية، تقود هذه الأسئلة الكثيرين إلى دوامة العدمية، الاعتقاد بأن لا شيء مهم. هذا الحرص والبحث عن إجابة قد يسبب في كثير من الأحيان ألماً غير مبرر.
هناك منظور ثالث للأمر، كما صاغه آلان واتس: “إذا كان الكون بلا معنى، فإن هذا ينطبق على العبارة نفسها. معنى الرقص والغرض منه هو الرقص.” من خلال إعادة تعريف السياق، كما تم تشكيله من خلال التعبير عن السؤال، فإننا نتغلب على مشكلة، والتي تعني في هذا الموقف احتمالية العيش في عالم لا معنى له. كما يشير واتس، مَن أنت لتركز على المعنى في عالم موجود هنا فقط؟ عالم لا تفهمه حتى؟ قد يكون الإطار الذي تنظر من خلاله هو الإطار الخطأ. قد يكون عقلك غير قادر حتى على طرح السؤال الصحيح. تخلق الأسئلة السياق، والذي بدوره يضع حدوداً، فيما الحدود تدفع إلى التعلق. التعلق إذن يعزز قدراتك الذاتية على العيش بطريقة بائسة أو تستحثّه. لا يكمُن حل معظم المشكلات في محاربتها، ولكن في طرح أسئلة أفضل.
تجنّب البؤس بعدم التعلّق
قضى كل من سدهارتا وجوفيندا حياتهما بأكملها في البحث عن الحكمة، ولكنهما لم ينالانها حتى توقفا ببساطة عن البحث عنها. كان السؤال الذي ركزا عليه هو السؤال الخطأ، وقد أجبرهما عدم قدرتهما على التفكير في احتمال أن يضّطرا إلى إعادة التفكير في فرضيتهما الأولية، على مسار مليء بسنوات وسنوات من الإجابات الخاطئة. البشر مبرمجون بيولوجيا لتمنّي الأشياء. إنه جزء من آلة النجاة، أجسامنا. وعلى الرغم من ذلك، تؤدي عملية الرغبة هذه إلى منطقة ضيقة من التعلّق تمنعنا من عيش الواقع بطريقة تساعد على تجنّب البؤس.
لمحاربة ذلك؛ علينا تطوير آلية المرونة لإعادة تشكيل محتوى هذه الرغبات، والتي تجعلنا أكثر معرفة وموضوعية بعالمنا. علينا أن نتعلم التخلي عن توقعاتنا الشخصية غير المعقولة والتي نتعلق بها في واقعنا اليومي، حتى نتمكن من إعادة صياغة أخرى جديدة في طريق أكثر فاعلية، والابتعاد رويداً رويداً عن التعلق بالنتيجة. يتطلب الأمر الكثير من العمل، وربما المزيد من الشجاعة، للنظر إلى نفسك وتقرر أنه ربما حان الوقت للنظر إلى الأشياء من زاوية مختلفة، بأسئلة مختلفة، ولكنه يؤدي فعلياً إلى نتيجة إيجابية.
تجنّب البؤس ليس بالأمر السهل ولكنه بسيط. عليك فقط اتخاذ الخطوات الصحيحة.
لا أعلم أهمية التعليقات بالنسبة لكِ. غير أنني أترك إحداها هنا لأقول: لامستني تدوينتك أكثر مما تخيلت!
شكراً طارق. ممتنة أن لها تأثيراً طيباً عليك.