لست هنا لأضع لك قوائم “أربعين درساً تعلمتها في الأربعين”، ففي الحقيقة، لا أعتقد أن أياً مما تعلمته في سنة واحدة سيفيدك. ولأنني أؤمن بأن ما نتعلمه في حياتنا ما هو إلا نتاج تراكم سنوات وخبرات، بعيداً عن “لايف كوتش” بعمر لا يتجاوز الخمس وعشرين. ولست هنا يا عزيزتي لأخبرك السر في تقليل التجاعيد (بعض من زيت جوز الهند لا يضر!)، لأنني ببساطة لم أبحث عن حل لها والشعر الأبيض المتكاثر منذ ٢٠٠٩. ما يحدث هنا يا صديقي هي محاولة متكررة للتصالح مع النفس، ومع الحياة.
حتى أنا نفسي لم أستطع كتابة هذه التدوينة، إلا قبل بضعة أيام من تاريخ ميلادي، إنها الرابعة وخمسون دقيقة من يوم الخميس. أنهيت ليلة حافلة في دهب بإنهاء التدريب للغوص، ولم أستطع النوم إلا ساعة واحدة طيلة الليل. بدأ النور يسري قليلاً في السماء، ونفسي توسوس لي الخروج للمشي ومشاهدة الشروق. أبعدت هذه الفكرة تماماً من رأسي، على الرغم من أن الحي الذي أسكنه الآن لا يبعد كثيراً عن الشاطئ. ولكن هذه البلدة الصغيرة هادئة جداً وسط النهار، ولا أعتقد أن هناك أحداً يسير في الشارع هذه اللحظة.
سنة بلا خطط
تسألني أمي ومجاهد، عن موعد عودتي إلى ماليزيا باستمرار، وغالباً ما تكون إجابتي: لا أعرف. وسألني مادس قبل أسبوعين عن خطط رحلاتي حتى نهاية العام، أخبرته أن الوقت مبكر للغاية في التفكير لهذا الأمر، فمازال أمامنا ستة أشهر. ذكّرني؛ “إنه أغسطس! أمامك أربعة أشهر، وليس ستة”. ثم سألتني فاطمة في ليلة ما عن خططي لما بعد مصر، حكيت لها عن الدول الأفريقية التي أنوي زيارتها. وفي الحقيقة، لا أعرف أياً من الإجابات مقنع لي قبل أن يكون مقنعاً لهم. وفيما يبدو أن الوقت أصبح هلامياً أمامي، ولست أملك أي خطة محكمة منذ شهور عديدة. ولهذا، أجد نفسي غالباً ما أقلب في أرشيف الصور منذ العام الفائت.
احتفلت بالأربعين بهدوء في كوالالمبور، لا حفلات ولا أصدقاء. كنا ممنوعين من التجمع بأعداد كبيرة، إنه كوفيد-١٩ وما صنعه بنا. ثم بدأت الحياة المملة في كوالالمبور تتغير، ما بين الاستعدادات للمغادرة، وقضاء شهور في تايلاند. تدحرجت الكرة سريعاً بالعودة المفاجئة إلى كوالالمبور. ثم الترتيب الفجائي أيضاً إلى سريلانكا، على الرغم من الأزمة الاقتصادية التي كانوا يعانون منها. جاءتني النيبال على طبق من فضة، يمكنني التقاط أنفاسي بعد العمل والعيش في أجواء شبه مشحونة. لتظهر لي الجزائر بعيداً في الأفق بترتيبات مبهمة، وحين اكتفيت منها غادرت إلى تونس التي رسمت لها صورة رومانسية للغاية.
اشتقت كثيراً للطعام الذي تطبخه أمي، والطعام الماليزي الممتلئ بهارات تربّت على قلب آكلها. لذلك جائتني فكرة المغادرة إلى مصر، وتوقفت في مطعم ماليزي قبل أن أصل فندقي في القاهرة. لم يكفني ذلك، مازلت أشتاق إلى طعام مطهوِ في البيت، ففكرة أن تأكل يومياً من المطعم لأكثر من ٥ أشهر ليست ممتعة أبداً.
عن الأصدقاء في الأربعين
هناك خط هلامي عن معنى الأصدقاء والمعارف كنت أعيشه في العشرينات، أصبح الأمر واضحاً حينما عشت ثلاثينياتي، وأصبح أكثر وضوحاً مع الأربعين. تخلصت منذ زمن بعيد عن الأصدقاء المتقلبين والمتصنعين، وفي الحقيقة، ربما استُبعدت أنا أيضاً من دائرتهم. أدركت مع تقدمي في العمر أنه من الطبيعي جداً أن تكون لديك دائرة اجتماعية صغيرة. فقد لا يكون لديك العديد من الأصدقاء كما كنتَ في العشرينات من العمر، فحتى مَن تتابعهم على الشبكات الاجتماعية ليسوا بالضرورة أصدقاء. هناك راحة عجيبة في معرفة مَن هم أصدقاؤك الحقيقيون أخيراً، فهم لا يهتمون إذا مررت بيوم سيء، أو اعتزلت العالم لأشهر، أو كان منزلك غير مرتب. يحبونك أنت، تماماً كما أنت، ويتعايشون مع نقائصك بسلاسة.
عددت مرة لأحمد أصدقائي الذين أحدثهم بشكل متقارب؛ رحاب، محمد، مادس، فاطمة. يكفي هذا العدد لألجأ إليه حينما تضيق بي الحياة، حتى وإن كانت العبرة ليست في الكمّ، خمسة هم ما أحتاج الآن.
الأصدقاء الحقيقيون هم مَن تستطيع التحدث معهم عن أي شيء وبأي طريقة، دون أن يحكموا عليك. قد لا تتحدثون كل يوم، ولكنكم حينما تتقابلون فكأنكم كنتم معاً بالأمس. أحب هذا جداً في رحاب، حتى لو لم نتبادل أي رسائل، تعرف تماماً أنها في دعواتي. وأعرف تماماً أنه حتى لو لم نتحدث لشهر، فنحن دائماً نكمل حديثنا ننتقل من حيث توقفنا. إنها لا تقضي أول عشرة دقائق من كل محادثة تشكو من المدة التي مرت منذ أن اتصلت. إنها ليست عدوانية سلبية أو تقول أشياء مثل “تتذكريني؟”، إننا نعود فقط إلى مساحتنا الخاصة كما لو أن الوقت لم يمر.
ستستيقظ أفضل إن نمت سعيداً
حسناً، هذا الأمر لا يتعلق بسن معينة، وتمنيت لو أنني تعلمته قبل سن الأربعين. يُقال؛ إذا نمت وسط جدال فستستيقظ غاضباً وستفسد اليوم التالي. حتى إذا كانت المشكلة لا يمكن حلها في تلك الليلة، فحاول دائماً تفويت الأمر، وتصالح مع نفسك أولاً قبل أن تنام.
لاحظت شخصياً أنني أنسى أي خلاف مع الآخرين -أو حتى مع نفسي!- بمجرد أن أنام. يأتي الصباح ولا أريد لأي شيء أن يعكر مزاجي، حتى لو كنت قضيت الليلة السابقة أفكر فيها بجدية. لا شيء يهم هذه الفترة أكثر من نومة هنية وبال مرتاح، وحينما يأتي الصباح يمكنني حل ما أشكل، أو مجرد التجاوز. ليس كل شيء في حياتنا يستحق مساحة كبيرة من التفكير والتمحيص، ولا حتى مجرد إثبات من المخطئ.
وفي الحقيقة، أكثر ما يزعجني في الحياة هو اعتيادي على أمر ما، وتوقّع أن تسير كيفما اعتدت عليها. وهذا خطأ كبير، تعلمته متأخراً أيضاً. تعلمت بطريقة ما أو بأخرى أن أتخلى عن كبريائي، والطريقة المثالية التي يجب أن تسير بها الحياة. تاخرت الحافلة التي أنتظرها في تونس العاصمة لأربع ساعات؟ هل هناك حل بديل وسريع؟ لم التأفف إذن.
أمعن النظر في نفسك
هل يهمك قبول الآخرين لتشعر بالرضا عن نفسك؟ أعتقد أنني تخلصت من هذه الفكرة بنسبة كبيرة للغاية، ويمكنني رؤية ذلك بوضوح هذه الأيام. تنازلت عن فكرة أني أكون شخصية لا تمثلني في الأساس، أو أن أقوم بأمر لا أحبذه. لست أحثك هنا على أن تكون بذيئاً، ولكن هل تعتقد أنه من المجدي مشاهدة فيلم لا تحبه لأن أصدقاءك يريدون مشاهدته؟
لم تعد تهمني العديد من التفاصيل الصغيرة التي قضيت ساعات في إجادتها، مثل طيّ الملابس لتكون بنفس الحجم، وترتيب كل شيء بدقة. هل تذكر طريقة كُن ماري؟ كنت مهووسة بالترتيب حتى قبلها! الحقيبة أو البيت غير مهمل أبداً، لكنني لم أعد أهتم بأدق التفاصيل المرهقة. أوه! هل تعرف أنني لم أكوي ملابسي منذ شهر؟ لدي مكواة بخارية للسفر، ولكنني أعيش على الشاطئ، فكل ما ترتديه في الصيف يبدو مجعداً ورطباً بعد عشرة دقائق. لا أعرف إن كان هذا الأمر ذو علاقة بسن الأربعين، أو بسفري في حقيبة لا تزيد عن ٤٠ لتراً، أو ربما الإثنين معاً!
تعرف نفسك أكثر
يُقال، أنك في الأربعينات تعرف نفسك أكثر، ولديك الحكمة لتبدأ أخيراً في عيش شغفك. غالباً ما شعرتُ في العقد الماضي أن أمامي الكثير من الوقت لأحقق ما أريد. ولكن الأمر معكوس الآن تماماً، وهذا ما يزعجني حينما أهدره، أو أقضيه في أمور لا تسعدني. كنت أظن أنه سيأتي “يوم ما”، لأفعل كل ما أحلم به، فكان من السهل طيّ أحلامي وشغفي مقابل التركيز على العمل والعائلة. وربما كنت محظوظة حينما أدركت قبل سنوات أن “يوماً ما” ليست بعيدة جداً. الأيام تجري بين يدي، فلماذا أضيّعها في بيئة عمل مسمومة أو أفعل شيئاً لا يسعدني؟ أعرف تماماً أن أمامنا الكثير من المسؤوليات، ولكنها لا يجب -أبداً- أن تكون عائقاً لكي أفعل ما أريده حقاً.
كيف تسير حياتك في الأربعين؟
تخليت في السنوات الأخيرة عن حياة لا تُشبعني، أو تحقق رغباتي الشخصية. تعلم ما أعنيه. الاستيقاظ مبكراً، وتناول القهوة على عجل، ثم الاستعداد للعمل. قضيت سنوات من حياتي بهذا الأسلوب، وأعلم جيداً أن الاستغناء عن أسلوب الحياة هذا رفاهية لا يحظى بها الكثيرون. لا تزال لدي كل المسؤوليات التي اعتدناها في حياتنا؛ الفواتير، الإيجار، المصروفات… الخ، لا مهرب من ذلك. ولأنني اعتدت عليها -مثلك- فلا يعني أنها يجب أن تكون في قائمة أولوياتي. فبعد سنوات وسنوات من العمل يمكنني الآن إفساح الأولوية للأشياء المهمة حقاً، كأن ابتعدت عن العمل لأسبوع وتسلق الجبال في النيبال، أو ترتيب أسبوعي الآن ليتوافق مع دروس الغوص في دهب.
من المفترض أن لديك ما يكفي من الحكمة لمعرفة الفرق بين النجاح الحقيقي والسطحي. المسمى الفخم، أو المكتب الكبير اللامع على الرغم من كونه جيداً، إلا أنك في الأربعين تدرك أهمية الصحة والرضا عن نفسك، والسعادة. ولن أتنازل -حتى الآن على الأقل- عن الحياة البسيطة للغاية التي أعيشها الآن. حتى وإن كان البيت الذي اخترته في دهب ليس بفخامة ما عشته به في كوالالمبور.
العمر: واحد وأربعين، إذن
كتبت على إنستقرام ليلة عيد ميلادي، إنها خطوة أخرى. ولا أعرف بالضبط لأين وماذا. ربما الحياة! الجميل -والذي مازال يرضي غروري- أن يحاول الآخرون تخمين عمري، ويخطئون. ٢٥؟ ٢٨؟ ٣٢؟ وحينما يأتي الحديث عن صغيريّ، يصبح السؤال: أنتِ أم! أضحك في تلك المواقف، متعللة بالجينات الآسيوية التي لا تهرم. وفي الحقيقة، أحب نظرات الاستغراب والمفاجأة التي تعتريهم. ربما لأنني توقفت عن إخفاء شعري الأبيض، وأنظر له بشكل مختلف. أحبه الآن أكثر.
سأنتظر بضعة سنوات الآن، ربما في الخامسة والأربعين، وأرى أي قرار “مجنون” آخر سأتّخذ.
لا تعليق