قضيت عام ٢٠١٩ بين الغابات في ألمانيا وماليزيا، والمدن العتيقة في تركيا، ثم الجزر في سلطنة عمان وماليزيا، ونويبع. السنة المليئة بالأحداث التي أحاول استرجاعها الآن، السادسة صباحاً. ليس لأنني استيقظت مبكراً، بل هي صعوبات النوم التي أعاني منها منذ وصلت كوالالمبور عائدة من ميلان. وربما كان اعتراضاً من خلايا المخ التي قررت أن أوقِف عنها القهوة، في كوالالمبور، بعد شهرين مستمرّين من شرب أجود أنواع القهوة وأسوأها.
حسناً.. حتى لا أسترسِل في موضوعاتٍ لا علاقة لها بالأمر، لنعد إلى أحداث سنة ٢٠١٩. ما الجدير بالذكر؟ ما الجدير بأن أُفرِغه من الذاكرة، حتى لا يتحوّل إلى ورمٍ. أحاول الآن تذكّر الأماكن والأحداث دون الرجوع إلى تقويم قوقل/ ودون الرجوع إلى خريطة قوقل -اللعينة- التي ترصد تحركاتي. والأهم، دون الرجوع إلى تصنيف (Travel) في بريدي، هذا وحده يعتبر مخزناً للذاكرة بما يخص الطيران، الفنادق، تأمين السفر، وحتى تأشيرات السفر.
يناير ٢٠١٩: خلِقت حورية بحر
بدأت الرحلة في الحقيقة في الثلاثين من ديسمبر ٢٠١٨، من كوالالمبور، إلى ماكاسار. ومن هناك، كان عليّ البحث عن السفينة الإندونيسية -اللعينة أيضاً- التي ستُقلّني من ماكاسار إلى سورونغ. نعم، سأكرر هنا بأنها لم تكن الخيار الأول في الرحلة، بل كانت العناء الذي حاولت تفاديه قدر الإمكان. ثم من ماكاسار، أخذتني السفينة إلى سورونغ، بوابة جزر راجا أمبات، جنة الغواصين. كنا نتنقل كل ليلة في جزيرة، وكنت شاهدة على التنوع الجميل بين الغابات، الجزر الحجرية والجزر المهجورة.
أذكر حتى الآن كل شعورٍ مرّ بي في اليوم الذي سبحت فيه لربع ساعة وحدي. في نقطة هادئة، لم يظهر تحتها أي حركة للأسماك، لا أمواج، ولا قاع يمكننا رؤيته. أذكر وجه “سْتان” وهو يخبرني: هذه المساحة لكِ أنت، لم أجلب أحداً للسباحة هنا، ولا أرى أي أثر لبشر فيها. أنزلي، إن أردتِ“، وكأنه يعطيني تذكرة للحياة. أخبر أصدقائي المقرّبين -هذه الحكاية- حتى اليوم؛ في الماء، تلفّتُ حولي، ١٠ أمتار من الماء يميناً، ومثلها يساراً، أمامي، وخلفي. نظرت للأسفل، لا أرى أي علامة للقاع، لون أزرق غامق فقط على مدّ البصر. بدأت الأسماك الصغيرة تتحلّق حولي. أذكر أنني ضحكت، بكيت، فرحت، خِفت.. تنفّست كثيراً هناك، وثبتُّ في مكاني حتى أدع مجالاً للأسماك أن تتحلق أكثر.
حينما صعدت، ومع أول نفَس في الهواء الطلق، عرفت أنه كان من المفترض أن أخلَق حورية بحر!
فبراير ٢٠١٩: ما بين النقاهة والاكتئاب
لم تكن العودة إلى ماليزيا ضمن خططي تلك الأيام، فقد كان من المفترض أن أكمِل طريقي بعد راجا أمبات إما إلى أستراليا أو الفلبين. أصدرتُ حتى تأشيرة سفري إلى أستراليا قبل المغادرة الثانية إلى إندونيسيا، لكن، كان للقدر وُجهة نظر أخرى.
كنت أعرف أيضاً أن عليّ العودة إلى ألمانيا خلال شهر، وفي محاولة لمسايسة المناخ المتقلب، بالمكوث في كوالالمبور. لكن كوالالمبور كانت خانقة حد الموت؛ مناسبات اجتماعية، وحفلات تتراكم معها الأسئلة، مناسبات ودعوات عائلية وجَب عليّ تلبيتها، ثم أصدقاء قدِموا للزيارة، ويجب أن أكون معهم. لم أكن أنام في اليوم الواحد أكثر من ٥ ساعات، ثم ظهرت مشاريع عمل عليّ إنهاؤها قبل المغادرة مرة أخرى.. في المقابل، لم أكن أريد سوى الجلوس في مكانٍ مغلق، والنوم.
دفعت نفسي مراراً للخروج، فكنت أزور الحدائق المحيطة بالبيت. المقهى الذي كنت أرتاده منذ سنوات، جاء بداله آخر جديد. كنت في الأول أطلب ساندويتش الدجاج بالأفوكادو، لكنهم هنا يقدمون وجباتٍ غارقة في الزيت والجبن ليس جيّداً. معدتي ذات المزاج الصعب لا تتقبّل هذا النوع من الطعام، ورحلة البحث عن مكانٍ جيد وهادئ للعمل والأكل معاً مرهقة. يكفي أن أقول؛ فبراير لم يكن كل يوم جيداً.
مارس ٢٠١٩: ألمانيا
كان من المفترض الوصول في مناخٍ أفضل، لكنني لم أستطع التأخر أكثر من ذلك. مارس كان لا يزال يلوّح بهواء بارد، مستمر، فيما كنت أسترِق لحظات خروج الشمس لأخرج أنا أيضاً. خففت الغابة خلف بيتنا الكثير مما أحدثه اكتئاب فبراير، حيث كان المشي الطويل شبه اليومي في الغابات ممتعاً، بينما ساعات اليوم لا تزال قصيرة، فكنت أنعم بلحظاتٍ طويلة للغروب. هناك زاوية محددة في مدخل الغابة تمكنني من رؤية الغروب جيداً، ومن تلك الزاوية، التقطتُ عدداً لا نهائياً من الصور للسماء بكل الألوان الممكنة. كنت أحرِص على اندماج اللونين الزهري والأبيض والأحمر والأزرق، حتى علّق “مارتين” مرة أن ذاكرة هاتفي ستتحول إلى أرشيف لألوان السماء. أعجبتني الفكرة! أصبحت أراقب الطقس كل يوم، ثم؛ أحمل في الرابعة والنصف كاميرا Sony ومثبّتها. أقِف في تلك الزاوية بعد دورة المشي، أقِف هناك وسط تعجّب الجيران، والمارّة.
حاولت خلق روتين شبه مستقرٍ هنا أيضاً، يمكنني الخروج في أي يوم ووقت خلال الأسبوع، لذلك أفضّل البقاء في البيت أو حوله في إجازات الأسبوع. أيام السبت، تعني لي تنظيف البيت، ثم روتين الأسبوع للعناية بالبشرة والشعر. أيام الآحاد تعني مشاهدة أكبر قدر ممكن من الأفلام، ثم المشي إلى وسط القرية، والذي ينتهي بالجلوس في محل الكيك. لا أحب عادة تناول الكيك، لكنني أحبه هنا، حيث صاحبة مقهى Café am Münster تصنع كل يوم ٢٠ قالباً طازجاً.
أبريل ٢٠١٩: ما حول ألمانيا
هدأ الطقس نوعاً ما. لم أعد أرتدي جوارب ثقيلة في البيت، ولم أعد أتكوّم على نفسي كلما فتحت باب الشرفة. أصبح من الممكن الخروج في الصباح للجري أو المشي في الغابات الأخرى، هذا أفضل. وأصبح بالإمكان الخروج لتسلّق الجبال، العادة -أو الرياضة- الأخيرة التي علِقت بي أكثر في سنة ٢٠١٩. كانت خياراً جيداً بما أن الطقس ليس بجيد بعد للسباحة، وأصبحت مهوُسة بالجبال، وتسلقها هناك. وأكرر السؤال بحماسة على “مارتين” دائماً، هل سنرى حيواناتٍ برية هنا؟
مع اعتدال الجو، وضعت خطة لزيارة عدد جيد من المدن أو القرى الصغيرة حولنا. أبحث عن القِلاع القديمة سواء كانت لا تزال قائمة أو متهدمة، ثم أبحث عن الكتب التي تروي حكاية تلك القلاع في المكتبة العامة القريبة. كان ذلك جيداً بالنسبة لي لتعلم تاريخ المكان بشكل غير ممل.
ثم أتى عيد الفصح، لنقضيه كاملاً في زينغن كالعادة. أحب هذه المنطقة من ألمانيا جداً، إنها تعني لي: كميات هائلة من الشوكولا، والكثير من الغابات، وبالطبع، الكثير من اللقاءات العائلية تحدث هنا. تصبح هذه المنطقة أكثر دفئاً مقارنة ببيتنا في موسبورغ. لا أعرف ما السبب، لكنه ربما قرب المدينة من بحيرة كونستانس.
مايو ٢٠١٩: أيام طويلة جداً!
بدأ الربيع أخيراً! تخلّصت بشكل كامل من ملابس الشتاء، وأصبحت أخرج -بكل ثقة- دون أن أحمِل معي سوى سترة خفيفة ليلاً. النهار بدورِه أصبح أطول، ولم يعد بإمكاني مراقبة الغروب بما أنه ببساطة يتعارض مع وقتِ عشائنا، في السابعة مساءً. اتبعت حمية خاصة في الأشهر الثلاثة تلك، كان الهدف من ذلك التعايش مع حالة “Lactose Intolerance” التي خلقت بها. بدأت أطهو معظم الأسبوع بعد انقطاع دام سنوات. حسناً، الأمر في ألمانيا يستدعي ذلك؛ أن تأكل وجبتين كل يوم في المطاعم يعني أن تنفِق على الأقل ٦٠ يورو لفردين. ناهيك طبعاً عن السؤال الكريه: أين سنأكل اليوم؟
اليوم الطويل هنا يعني عمل الكثير؛ أصبح بإمكاني إنهاء معظم عملي الكتابي في الصباح، وظهراً، نخرج لتسلّق إحدى الجبال القريبة. أو استمرار المشي في الغابات المحيطة بالمنطقة. أو أكتشف حينها بحيرة لأمشي حولها، ثم أسبح طبعاً. في طريق العودة؛ أراقب الشمس بنصف عين مرهقة.
يونيو: حياة مثالية في سنة ٢٠١٩
حملت حقيبتي إلى أقرب جزيرة بعد عيد الفِطر. لا أعرف لمَ اخترت لنكاوي التي أعرفها جيداً، وربما كان ذلك السبب؛ أنني أعرفها جيداً. بقيت في مسكنٍ صغير هناك، ألتقي جيراني كل ليلة تقريباً؛ إسبانية، فينيزويلياً، إيطالياً، وأرجنتينية.. كانت الإقامة هناك أشبه بالهدنة مع كل شيء، بينما عامل كنديّ خفيف الظل ينظف المكان، فيما زوّار آخرون من ألمانيا وبريطانيا وفرنسا يتوافدون على المكان بين حين وآخر. كنا نحن الخمسة المقيمين بشكل شبه دائم، وبعد أن غادرت، غادروا هم واحداً تِلوَ الآخر.
فقط في جزيرة لنكاوي يمكنك تناول ساندويتش شاورما على البحر بما لا يزيد عن ١٠ رنجت. لم أستخدم تطبيق Grab هنا إلا في مراتٍ قليلة، فقد كنت غالباً ما أحب المشي لمسافات طويلة. تحيطني نظرات أهل القرية، يحاولون تفسير السُمرة والوجه الماليزي.
أحببت روتيني وحياتي هناك؛ صباح شبه مبكر، وعمل خفيف جداً. بعد الغداء؛ أحمِل حقيبتي الصغيرة إلى الشاطئ، أقرأ، وأمارِس اليوغا، وأراقب الناس. أعود مساءً وفي يدي عصا آيسكريم تخفف عني الحر والرطوبة الشديدة. ثم أكتب قليلاً، ثم نتحلق حول النار، نحن الخمسة وآخرون. أخلو بنفسي بعدها قليلاً، ثم أنام. هذا الشكل من الحياة كان مثالياً جداً!
يوليو: ما بين الغابات الماليزية
بدأت هذا الشهر مشروعاً مع هيئة التنشيط السياحي؛ حيث كان عليّ التنقّل من منطقة إلى أخرى بهدف الترويج لها، والكتابة عنها. أصبحت أقرب هذا الشهر إلى النوم في الغابات والتعامل مع الحيوانات البرية. لم أكن مهتمة بأي شيء أكثر من “بخاخ الناموس”، فقد كنا في حربٍ شبه دائمة! عرفت السر أخيراً، العِبرة ليست في البخاخ يا أسما، العِبرة في حمل عطر “عشب الليمون” معك دائماً! وهذا ما حدث. رائحة لطيفة، ولا حاجة للبخاخ طوال اليوم.
بدأت الرحلة بزيارة قبائل السكان الأصليين (Orang Asli)، ثم قضاء ليلتين في إحدى الغابات الصغيرة المأهولة بالأرواح والحكايات. شققت طريقي نحو الغابات في تامان نيقارا، الغابة التي أحب. أعتقد أنني مكثت فيها مدة أطول مما خططت له كالعادة. وجدت نفسي منبهرة من قدرتي على المشي الطويل في تلك الغابات، لديّ القدرة على التسلق والنزول في الأراضي الطينية. كان من الصعب رؤية أي حيواناتٍ كبيرة، فأشغلت نفسي بالأصغر. هناك حيّة بلون بني، وسحلية، وبالطبع؛ قرود!
أكملت الطريق فيما بعد إلى كوانتان، مكثت هناك حوالي أسبوعين أو أكثر. خلفنا جبل، غابات، وعلى مسافة ١٠ كيلومتر هناك شاطئ تشيراتينغ الجميل. كان لدي دائماً الخيار الأسهل للوصول إلى الشاطئ، لكنني كنت أحب تسلق الجبل صباحاً، بعد الإفطار مباشرة، ثم العروج على الغابة، ومحاولة البحث عن الشلال. في كل مرة، ينتهي بي الأمر إلى مخرج مختلف من الغابات إلى الشاطئ. وفي كل مرة كان المشي ممتعاً أكثر من كونه مرهِقاً.
أغسطس ٢٠١٩: ميلادي في ولاية صباح الماليزية
إن كنا أصدقاء، أو تقرأ مدونتي منذ مدة، ستعرف أنني أحب ولاية صباح. لا يمكنني إنكار ذلك، ولا إخفاؤه. أحب هذه الولاية بكل مدنها، وقراها، وناسها، أغفِر لهم كل شيء ناقص. أحب الوجبات البحرية فيها، وأحب اللغات التي يتحدثونها فيما بينهم، وإن كنت لا أفهمها.
تنقّلت في ولاية صباح هذه المرة بين غربها، وشمالها وجزء من شرقها. وصلت إلى أبعد وأعلى نقطة في بورنيو، في مدينة كودات. لا أدري ما المميز في الأمر، لكنه يذكرني بالوصول إلى أقصى/أبعد نقطة. أكملت سيري إلى ثاني أحب البقاع إليّ في صباح، كونداسانغ. أذكر أنني كنت مبهورة بكل شيء هناك، على الرغم من أنني زرتها مسبقاً عام ٢٠١٥. أحب جبل كينابالو الذي يبدو عظيماً من أي زاوية تراه فيها، أحب الأجواء المعتدلة والباردة هناك، أحب الفاكهة الطازجة القادمة من مزارع القرية، أحب تاريخ المكان هذا، ولمَ هو مميز. لا تكتمل زيارة ولاية صباح بدون زيارة الغابات في سيبيلوك وكيناباتانغان. السكن في الغابات هناك أمر مختلف تماماً، كان سريري مطلاً على الغابة. وهناك، حين تشرق الشمس تسترق النظر إلي من بين الشقوق.
عيد ميلادي كان هادئاً في سانداكان، المدينة الساحلية التي تشبهني كثيراً.
سبتمبر ٢٠١٩: شهر الغوص
نعم؛ شهر كامل من سنة ٢٠١٩ كان مخصصاً للسباحة والغوص. كانت جزيرة تيومان هي الخيار الأسهل، والأقل تكلفة، ثم أفضل المتوفر ذلك الوقت. بداية سبتمبر يعني ذروة الموسم السياحي في جزيرتي ريدانج وبيرهنتيان. تيومان كانت أقل شعبية، وبخياراتٍ ممتازة، جدولي في الخريف والشتاء ممتلئ، وليس هناك وقت للغوص سوى سبتمبر.
وجدت نفسي أغوص على الأقل مرتين أسبوعياً، في منطقة جديدة كل مرة، وإن تكررت فإنها تكون بتوقيت مختلف. ربما لم تختلف الشعاب المرجانية، لكن الأسماك تختلف. السلحفاة الضخمة التي سبحنا معها، ثم السمك الصغير الذي كان يلاحقني في عمق ١٧ متراً. الأسماك الصغيرة التي كانت تقف عند الشعاب المرجانية، ولا تتحرك إلا قليلاً. في الليل، كان الوقت مناسباً جداً للاسترخاء على الشاطئ وبعض الموسيقى. فيما البقية يلعبون بالكرة أو يتحدثون كثيراً حول النار. هناك ليالٍ لم أستطع الخروج فيها بسبب دخان الحرائق القادم من إندونيسيا، كانت الفترة الأصعب لي على الجزيرة.
في الأسبوع الأخير، وجدت نفسي مرشدة سياحية هناك بلا قصد! 🙂 مجموعة من الفرنسيين والإيطاليين لم يعرفوا أين يستمتعون بالضبط بالغوص الحر. وجاءت “أسما” المنقِذة.. أصبحنا الحلقة البشرية التي كانت تراقب السلاحف.
أكتوبر ٢٠١٩: ستي التي فقدت الذاكرة
لم أرها منذ سنوات. وبغضّ النظر عن الأسباب التي لا أريد سردها الآن؛ رأيتها أمامي ذابلة، بعينين تنظران للبعيد. دخلت حجرتها صباحاً، ومعي مجاهد، “ستي، أنا أسما، وهذا مجاهد”. سألتني عن الحال، وبنت من أكون، وأين كنت. عرفتُ”ستي” امرأة قوية، لم تكسرها الأيام العِجاف، كانت تصحو قبل الشروق، وتحاول إيقاظنا. تنزعج جداً حينما أستيقظ في العاشرة صباحاً، فيما كانت تطلب من صبي المطعم إيصال “روتي تشاناي” للبيت كل صباح حتى نفطِر. في المساء، كانت تنام في التاسعة، وعلينا أن نهمِس معظم الوقت حتى لا نوقِظها. هي الآن لا تفعل ذلك؛ تنام بشكل متقطع طوال النهار. وفي الليل، تسهر، تنادي خالي، “يحيى، أوه يحيى”، معظم الليل.
مجاهد هو الآخر كبُر، تركته هناك مع أمي ليلبّي طلباتها الخفيفة. كبُر هذا الصغير الذي جاءني وحده، وسافر ٥ ساعاتٍ وحده. وهناك، كان يسير ممسكاً بأمي، ويذكّرها بجرعات الدواء وساعاته. لا أعرف متى وكيف كبُر هذا الولد بمراهقة سهلة، لا أذكر أننا تعِبنا منه أو اشتكينا من “حركات نص كم” كثيراً. حتى أمي لم تشتكِ، ولم يكن هو ينسى أي طلب تريده. نعم، كانت هناك ساعات طويلة من ألعاب الجوال، لا يهم. المهم أنه كان بين عائلتي في الوقت الذي لم أستطع أنا.. ووِفق إرادته.
نوفمبر: رحلة الشتاء في سنة ٢٠١٩
كان من المفترض أن أقضي ثلاثة أشهرٍ أخرى في ميونخ. لكن البرد، كانت له كلمة أخرى. لم أستطع تحمّل الجو القارس المفاجئ هذه المرة.
بحثت عن بلدٍ أدفأ، وليست بعيدة عن ألمانيا أو أوروبا بشكل عام. حسناً.. كان الحل في تركيا! المصافحة الأولى بإسطنبول وحاراتها الصغيرة، المرة الأولى التي أجرب فيها الأكل التركي، في تركيا. قضيت أهدأ الأيام في إسطنبول الآسيوية؛ أمشي كل يوم ٤ ساعات بين الأحياء القديمة، أصوّر كل شيء تقريباً، قبل أن يبرد الجو أو تمطِر السماء. نعم، لازلت لا أحب المطر. مررت بإزمير، أحب هذه المدينة أكثر، هنا الناس أكثر تفتحاً وتعقلاً. اخترت مساكن في بيوتٍ شعبية مرممة ومؤثثة حديثاً. “يونس” صاحب المسكن كان هو الآخر لطيفاً جداً.
فاطمة.. التي أصبحت الوجه الذي أرى فيه إسطنبول. لم تعد مجرد “المدينة المزدحمة”، بل أصبحت المدينة التي تغطيها فاطمة بشعرها المموج، وضحكتها الهادئة. حكايات فاطمة، والمشي لمسافات طويلة، وتصوير النوارس. الشاطئ الطويل الذي مشينا فيه معاً، ثم الغابة الصغيرة التي سرنا فيها مسافاتٍ طويلة، وسط خوف فاطمة. أكواب القهوة الكثيرة التي تشاركناها. البيتزا في حي بائعي الأسماك! هذه إسطنبول.
ديسمبر ٢٠١٩: موون، ثم سلطنة عمان
حسناً.. لا أكِنّ لأي شهر من السنة مشاعر خاصة، وليست لي تنبؤاتٍ خاصة عن أي شهر من السنة. ليس لدي أي وقت لأمر كهذا، لكنني أصبحت أحب ديسمبر، لسنتين متتاليتين، أحدها الآن، سنة ٢٠١٩.
مصر، جاءت في الوقت الضائع، أو هكذا يتخيل لي. لم أحب القاهرة، ولا أي شيء يجذب الناس لها. أخبرني حينها “ساقي” أحد الرحالة الإسرائيليين والذي التقيته في القاهرة عن نويبع. وفي الليلة التالية؛ وجدت نفسي هناك. سرقت نويبع قلبي، وروحي، ولملمت كل آلام السنة في جعبتها. وصلت هنا حينما كان القمر أبيضاً؛ الصحراء، والبحر في مكانٍ واحد. وجدت “فرج” الذي سمِع مني كثيراً، وأطربني بدقات العود التي لا يزال يتعلمها. هنا، وجدت “موون”، صغيري غير البشري. ثم “بييرو” الذي قضيت معه يومين كاملين أختبر فيها الكلمات المصرية التي تعلمها، ونتسلق جبال سيناء لنصل إلى وادي الواشواشي.
ثم جاءت سلطنة عمان، كأجمل خاتمة للعام كله. في أوديتها، وجبالها، وصحاريها، وشواطئها وبحرها، كانت عيني لا تصدّق ما تراه. كيف لمساحة صغيرة كهذه أن تزخر بكل هذا الجمال، وبكل هؤلاء الطيبين فيها منذ أن وطأت قدمي أرض مطارها وحتى غادرتها. كانت أفضل مكانٍ لأختم فيه العام، على مرتفعٍ هائل، مع الأصدقاء الذين التقيتهم قبل أيام. يعرف أصدقائي المقربون كم أنا مفتونة بعمان، ولا يفهمون السبب، وجدت في سلطنة عمان كل شيء أبحث عنه كخاتمة للعام. تبحث عن جبال شاهقة؟ عمان. تبحث عن أودية خلابة؟ عمان. تبحث عن صحراء منبسطة وسماء صافية؟ عمان. تبحث عن شعاب مرجانية وأسماك نادرة؟ عمان! لم أستوعب كيف لهذا الجمال أن يجتمع في مساحة واحدة، وكيف لأُناسِه أن يكونون بهذا التواضع، والاحترام والتقدير.
سنة ٢٠٢٠..
سأدعها لتكون سنة المفاجآت أيضاً. يبدأ الآخرون بوضع خطط للعام، فيما أجلس أنا الآن في زاوية الكتابة ببيت أمي. ليست هناك خطط. ولا أعرف كيف أجيب على الأسئلة الكثيرة. وافقت عودتي لماليزيا هذه المرة عيد رأس السنة الصينية، والكثير من اللون الأحمر في كل مكان. أصدقائي الذين أصبحوا يفضلون المكوث في كوالالمبور خلال هذه الإجازة يقيمون حفلات صغيرة في بيوتهم. أخبِرهم أنني لست مستعدة للقاءات الاجتماعية بعد. أبحث عن السكينة هنا، واستراحة لا أدري لأي وقت ستستمر.
لا تعليق