الحياة بتأن

الحياة بتأن


الحياة بتأنٍّ.. تلك دانة!

غالباً ما تكون دانة آخر مَن ينتهي من تناول أي وجبة. وكثيراً ما يدور الحوار بيننا في أنه مهما وصَل طبقها قبلي مثلاً فإنها ستكون آخر مَن ينتهي. ويظنني الكثيرون أبالِغ حين أقول “لديها القدرة على استغراق ٤٥ دقيقة لإنهاء ساندويتش توست واحد”. أذكر إحدى المرات التي لا يمل فيها مجاهد مشاكسة أخته قال لها: “لا يجب أن تستغرقي دقائق طويلة لمضغ لقمة واحدة، يمكنك بلع القضمة بعد مضغها ثلاث مرات. هكذا واحد – اثنان – ثلاثة. ثم ابلعيها ستمرّ اللقمة بسهولة!”.

ربما كان الأمر مضحكاً بتعابير وجه مجاهد الكوميدية وهو يريها كيف تنهي وجبتها سريعاً. أو على الأقل لا تستغرق ساعة ونصف لإنهاء طبقها. لكنني أعلم أنها كانت مستاءة من الأمر ككل. ظللت لفترة أراقبها حين تأكل؛ نوع الأطعمة التي تفضّلها محدد ولا تحب عادة تجربة الجديد منها إلا بعد ضمانات مني أنه سيعجبها. ليس هناك ما يُقلِق إذن، ولا هي تعاني من اضطرابات تناول الطعام (Eating Disorder). رأيتها ذات صباح تتناول إفطارها الذي تفضله أن يكون حبوب cocoa crunch ذو اللونين، كانت تأكل قطع الشوكولا السوداء أولاً ثم البيضاء قبل أن تنهي الحليب. سألتها عن السبب، لتجيبني أنها تستلذّ بالطعم أكثر هكذا!

دانة التي تعيش الحياة بتأنٍّ

سألتني قبل أسابيع عن مواد تريد جمعها لخلط شيء ما هلامي لم أكن أعرفه من قبل، (Slime). كانت تجرّب عدة خلطات من يوتيوب وتشاهد فيديوهات كثيرة عنه وطريقة تلوينه… الخ. كنت كالعادة أراقبها عن بُعد بما أنها تقوم بتركيب مواد لا أعرف عن خطورة دمجها معاً. بتروٍ تسكب الصمغ، ثم بيكينج صودا، وتخلطهما جيداً. ثم باقي المود. تقلبّهم ببطء وتعجن ما يظهر أمامها. أتعجب أحياناً من تأنيها فيما تقوم به. يمكنها أن تستغرق ٢٠ دقيقة في خلط ذلك المزيج ثم تضيف ما تريد واحداً تلوَ الآخر. تركتها مرة لأنهي عملاً ما ومازالت تخلط مابين يديها دون أي انزعاج.

ما الذي يعنيه أن تعيش الحياة بتأنٍّ

وجدت قبل أيام قائمة على TED بعنوان Slow Down! Enjoy life. وفهمت كل ما كانت تقوم به صغيرتي دون أن يخبرها به أحد. دون أن تسمع بتعبير “التركيز بكامل الذهن” على ما نقوم به، أو (Mindfulness) الذي كانت تحدثني عنه لبنى في جلسات طويلة قضيناها وتدريبات كنت أتّبعها بين فترة وأخرى. دانة ببساطة تعيش اللحظة وتضع كامل تركيزها على ماتقوم به باستمتاع تام. هي ببساطة أكثر تتلذذ بكل لقمة تقضمها من طبقها المفضّل وعصيرها الزهريّ اللون الذي نادراً ما تطلب غيره. تذكرت كذلك  تدوينة قديمة قرأتها منذ مدة لأم توقفّت عن استعجال صغيرتها التي تفضّل أن تتوقف لتشمّ رائحة الزهر، أو أن تحملق في عجوز مرت بها فقط لأنها تشبه جدتها. وأدركتُ أن دانة صغيرة عن استعجال ما تقوم به لأنها تفضّل أن تستمتعبه وتعطيه حقه من الوقت.

روتيني ويومي المستعجل!

روتين الصباح اليومي الذي ظننته عادياً يبدأ في السادسة ٤٠ دقيقة، الاستعداد والخروج للتمارين شبه اليومية التي يجب ألا تتعدى ٥٠ دقيقة، الاستحمام والاستعداد للعمل خلال ٣٠ دقيقة، تحضير إفطار مبسّط جداً وتناوله خلال ٢٠ دقيقة بينما أشاهد فيديوهات القنوات التي أتابعها على يوتيوب. ماعدت أستغرق ٣٠ دقيقة لشرب القهوة على مهلٍ بينما أراقب مايحدث في الخارج، فقط لأنني لا أملك ذلك الوقت الآن، فعليّ طلب السائق فور انتهائي من الإفطار. يتكرر ذلك الأمر كل صباح خلال الساعتين الأولى قبل الخروج للعمل بما أنه يتوجّب علي مغادرة البيت في الثامنة والنصف. ينتهي اليوم بدوّامة أصغر؛ أصِل المنزل عادة قبل السابعة، ثم تحضير عشاء خفيف ريثما يحكي كل منا أهم ما حدث خلال اليوم، لتنتهي الدوامة في الثامنة والنصف مساءً. ساعة ونصف فقط قبل موعد نومي المعتاد في العاشرة.

حياة…

يمرّ اليوم سريعاً بكلّ ما فيه، وينتهي الأسبوع دون أن أتذكر حدثاً ما مميزاً فيه. تساءلت بينما أكتب الآن عن آخر مرة قررت فيها أن أمشي في الحديقة المجاورة بعد ساعات العمل أو حتى الخروج لأكل الآيسكريم دون أن أفكر في قائمة الأشياء التي عليّ إنهاؤها أو دون التنقل بين ممرات السوبرماركت. هذا الجري اللانهائي لما نسميه حياة جعلني أنسى الاستمتاع بأشياء كثيرة أقوم بها. أتذكر الآن مشهداً في فيلم Eat, Pray, Love الذي تسأل فيه إليزابيث جيلبرت صديقتها إن كانت تتذكر ماالذي تناولته على وجبة الغداء، وتجيبها: لا أتذكر، ربما سلطة. أمرّ الآن بهذه المرحلة، خاصة وأنني في أغلب الأوقات أحضّر غدائي منزلياً وأتناوله على طاولة العمل بينما أقضي تلك الساعة في قراءة تدوينات أو مقالات ما لا صلة لها بالعمل. ولا أتذكر عادة كيف كانت سلطتي أو طبق الغداء الذي حضّرته في البيت.

تعدّد المهام ليس أمراً جيداً

أمر آخر أعتقد مرتبط بإنهاء المهام بشكل أسرع، هو تعدد المهام (Multitasking). كبُرت في مجتمع يظن أن تنفيذ عدد ما من الأعمال في وقت واحد شيء جيد، وأن إمكانية إنهاء مهام ما بنفس الوقت في العمل مثلاً مهارة مطلوبة. حتى في البيت؛ كبُرت على أن الأم قادرة على تحضير وجبات العشاء ريثما تساعد الصغار في حلّ الواجبات المدرسية وتستمِع إلى أو تشاهد مسلسلها المفضل على التلفزيون مثلاً. كبُرت على أن الوقت “يجب” ألا يمرّ هكذا دون ألا أفعل فيه شيئاً أو أشياء معاً في وقت واحد، ويمكنني رؤية كم هو سيء هذا الاعتقاد الآن.

أصبح تعدد المهمام مزعجاً بالنسبة لي، فمن الممكن أن يؤدي إلى إهدار الوقت بسبب التشتت الذهني في تأدية عمل ما، وقد يتسبب في المزيد من الأخطاء بسبب انخفاض نسبة التركيز، وهو ما يجعلني أتردد كثيراً قبل تسليم عملٍ ما وقراءته مرات مع بعض التعديلات. تعدد المهام والتحول المستمر ذهاباً وإياباً بين ما أقوم به ليس بالأمر السهل بالنسبة لي، وأن دماغي يحتاج إلى بعض الوقت لإعادة التركيز. لذلك في حين أنه قد يبدو مجدياً عن بُعد، إلا أنه يقلل الإنتاجية الحقيقية بشكل كبير. يزعجني أكثر أن يقلّب أحدهم في هاتفته بينما أتحدّث، أو أن يجلب أحدهم الآيباد أو اللابتوب لغرفة الاجتماعات لقراءة أو الرد على إيميلاته. يزعجني أساساً صوت النقر على أزرار لوحة المفاتيح باستمرار بينما أحاول الاستماع ومناقشة فكرة ما أو تسجيل ما عليّ القيام به بعد الاجتماع.

حلول لموازنة الحياة

عوّدت نفسي مؤخراً أن أوازن بين قائمة المهام التي أريد إنهاءها يومياً وبين أن أعطي نفسي وقتها وحقّها. هناك أمور مثلاً لا تتطلّب مني سوى المراقبة عن بُعد:

  • الفواتير الشهرية مجدولة في حسابي البنكي لمدة عام. قضيت ساعة في السابق في إدخال الحسابات والمبالغ، ثم جدولت الفواتير المستقلبية لتُدفع كل شهر بتاريخ معين. ينطبق الأمر على المدخرات الشهرية لي والصغيرين حيث تُحوّل إلى حسابات أخرى مخصصة لها. وتصلني رسائل تنبيهية مع كل عملية تحويل.
  • لأنني لا أملك الوقت الكافي لجلسات التأمل الطويلة، خصصت ٥ دقائق من الصباح للتأمل. يوقظني المنبّه في الساعة٦:٤٠ دقيقة ثم أفتح تلقائياً تطبيق Simple Habit على إحدى جلسات التأمل الصباحية. جرّبتها لمدة أسبوعين وأظنها الأنسب لي حتى الآن.
  • السبت هو يومي الخاص، أقضيه عادة في أمور العناية الشخصية والبشرة، قراءة كتابٍ ما، التحضير لتدوينة الأسبوع ثم كتابتها وجدولتها، الاسترخاء. ثم الخروج للعشاء أو طلب بيتزا مع فيلم على نيتفلكس مثلاً. المهم أنه الوقت المخصص لنفسي.
  • صباح الأحد من كل أسبوع نخرج لوجبة مابين الإفطار والغداء في مطعمنا المفضّل. ثم التسوّق الأسبوعي وِفق قائمة محددة ومن سوبرماركت يوفّر جميع احتياجاتنا بحيث يمكنني قضاء الوقت فيما بعد لتحضير وجبات الغداء الأسبوعية وتعليبها. إضافة إلى وضع قائمة للعشاء للأسبوع.
  • تغييراً للروتين، بدأنا التخطيط لرحلات شهرية قصيرة خلال نهاية الأسبوع إلى أماكن قريبة من كوالالمبور، خاصة وأننا نعيش في بلد ذو عطلات رسمية كثيرة. هذا الأمر يعني الكثير بالنسبة لي خاصة وأنه يحفّز النفس على العودة للعمل/الدراسة من جديد. وتوثيقاً للعلاقات بيني والصغيرين.

مازلت أقرأ وأجرّب طرقاً أخرى للموازنة بين الحياة والجدول اليومي السريع.. شاركوني إن كانت لديكم مقترحات أخرى!

أسما قدحAuthor posts

Avatar for أسما قدح

Malaysian Travel Blogger on #TRLT. En-Ar Translator & Content Writer | مدونة ومترجمة ماليزية رحالة في الطرق الأقل سفراً

2 تعليقات

  • الله يا سوما
    أظن لي ٣٠ دقيقة في مدونتك … هذا الموضوع تحديدا يشكّل لي تحدي، أعتقد أن السرعة سِمة في سلوكي اليومي، بمجرد ما أبدأ بعمل ما، يشتغل في ذهني صوت عدّاد تنازلني: انجزي هذا العمل بأسرع وقت ممكن. أنجزه فعلا وكونه يكون منجزا بشكل “متقن” هذا أمر يجعلني أشعر أن النمط السريع “لا مشكلة” في أسوأ الأحوال، و “واو.. هذه مهارة جيدة” في أحسنها، هذا الشّعور مخادع وزائف. لأسباب عديدة، أخطرها: القلق البالغ عند اختلال هذه السرعة، رغم عدم وجود أي مبرر، ولا أي ضرر، الأمر الآخر المزعج هو انسحاب هذه العادة من “الانجاز السريع لمهام العمل” إلى ” الانجاز السريع لكل شيء!” ، وضعت لنفسي عدة قوانين – أخرقها أحيانا- لكنني أعود:
    ١- الأكل على طاولة الطعام، لا مزيد من حمل الصحن وإنهائه في المسافة بين المطبخ والغرفة! ولا مزيد من تناول الفطور في السيّارة، وإذا لم يكفني الوقت للأكل قبل الخروج، سأتنظر إلى أن أصل وآكل بهدوء في منطقة الطعام والانتظار، ليس على المكتب.
    ٢- سأقف وأنتظر القهوة حتى تغلي، الأمر لن يستغرق أكثر من ٣-٥ دقائق، كنت في السابق املأها بأي عمل آخر: العودة للغرفة، تقليب الجوال، العودة إلى التلفزيون، كنت دائما ما أفوّت لحظة الغليان، وأهرع بمجرد سماع صوت القهوة تفور على النار.
    ٣- عندما لا أحصل على وقت كافٍ للتحضير قبل الخروج، أقف للحظة وأتخذ قرارا: سأنجز شيئا واحدا بشكل مميز، والبقية بشكل اعتيادي، لن أتحرك بسرعة جنونية لانجاز كل شيء، إما مكياج نظيف أو شعر مسرّح بشكل رائع.
    ٤- سأجلس على كرسي وأسند كفّي واطبّق المناكير بشكل هادئ ، تطبيق المناكير بسرعة وقوفا أو في السيارة، وإن كان متقنا لكنني نسيت روعة الأمر، روعة الجلوس والاستمتاع بهذا الفن.
    ٥- عندما أقرر مشاهدة محادثة تِد أو يوتيوب، لن أتنقل بسرعة بين عشرات المقاطع ذات الدقائق القصيرة والتي سينتج عنها ضياع أكبر للوقت، لا مشكلة من قضاء ١٩ دقيقة للاستماع إلى محادثة جيدة أو حتى ٤٥ دقيقة لمشاهدة حلقة ثريّة.
    اممم هذا الحاضر في ذهني حتى الآن.

  • كالعادة، مواضيع شيّقة جدًا لا تستطيع الإفلات دون أن تختتم التدوينة حتى آخر نقطة..
    دانة تشبهني في فقرة الاستمتاع بالأكل، وإذا تمعنت أكثر فهي تشبهني أيضًا في معظم الأشياء، لا يمكنني أبدًا الخروج عن النمط الذي اعتدت عليه.. وكنت أظنها نقطة ضعف لكن يبدو أنها نعمة تستحق الشكر ?

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *