اكتفيت من الجزائر العاصمة، وزرت فيها ما يهمّني، أو حسب الجدول المُعدّ من الشركة السياحية. وحان الوقت للعودة إلى مكان ما، أكثر هدوءاً، وأقل زحاماً، وأقرب للطبيعة. ولأنها الجزائر الجميلة، والتي تغطي الصحراء ٨٠٪ من حجمها، فكان لابدّ من مصافحة الكثبان الرملية. لم تكن الأجواء مناسبة في مايو ٢٠٢٢ للتعمّق في الأجزاء الداخلية من الصحراء، ولهذا وقع الاختيار على صحراء تاغيت. مدينة صحراوية صغيرة، في الجزء الغربي من الجزائر، ولا تبعد كثيراً عن الحدود المغربية. تتشكّل الجوهرة الطبيعية بواحة تاغيت، والتي تُعرف بأنها عجائب الطبيعية الجزائرية. وبالطبع، لم يكن هنا الكثير من السائحين، وهذا ما أردته.
تعود شهرة تاغيت إلى مرور العديد من القوافل التجارية بها. تزينها أشجار النخيل، والواحات المحاطة بالكثبان الرملية الضخمة التي تبدو أشبه بالجبال الرملية. وهذا ما يجعلها المكان المثالي في الجزائر للتزلج على الرمال. أو قيادة الدراجات الرباعية على الكثبان الرملية الصحراوية الضخمة، والتي تمتد لأكثر من ستة آلاف كلم من هنا. وإن اكتفيت من الصحراء والرمال، ففي تاغيت الكثير من المعالم التاريخية، والآثار القديمة التي لا تكتمل زيارة تاغيت بدون زيارتها. إضافة بعض النقوش الصخرية القديمة التي يٌقال أنها من العصر الحجري الحديث.
صحراء تاغيت مُريحة للقلب
لم أتخيل كبر مساحة الجزائر إلا حينما حلّقت في سمائها. سافرت في رحلة جوية لساعة ونصف، جنوباً من العاصمة الجزائر وحتى الولاية الصحراوية بشار. والعجيب، أنني لازلت في الجزائر! ولم أصل بعد لأقصى جنوب البلاد. من السهل أن تنسى أن هناك دولة بأكملها لاستكشافها، ويتفاخر أهلها بأنها اكبر دولة في أفريقيا. كانت الخطة أن أقضي ثلاث ليالٍ في صحراء تاغيت، من العاشر وحتى الرابع عشر من مايو ٢٠٢٢. جعلتني أؤمن بأن زيارة الجزائر لا تكتمل بدون قضاء أيام في صحرائها، أي جزء من صحرائها الشاسعة.
وإن كنت تعرفني جيداً، ستستغرب الجملة الأخيرة، فكيف لماليزية شاطئية تتغنّى بالصحراء! ولكن، هناك نوع من حب الاستطلاع، ورغبة في مقارنتها بصحراء سيناء، التي أحب.
قدنا بعدها لساعة ونصف تقريباً، فيما عيني لم تفارق معالم الطريق. وصلت إلى فندق قصر بلادي، بعد منتصف النهار. لم يكن هناك أي سائحين آخرين، وأعتقد أنني لمحت بعضاً من الزائرين المحليين فقط، فيما لا يزال المكان هادئاً للغاية. ولأنها منطقة صحراوية، فكان لابدّ من وجود مرشد سياحي معي، وليُبقي تحرّكاتي معلومة لدى الدرك الوطني. كان من جدول استكشاف المكان هو شرب الأتاي (الشاي) المحضّر على الطريقة الصحراوية الجزائرية، بين الكثبان الرملية.
الغروب الأول في تاغيت مع الأتاي الصحراوي
من نافذة غرفتي، أرى جزءاً من المدينة الصحراوية، فيما تحيط بنا الكثبان الرملية من كل جانب. قضيت بقية الساعات ما بين القراءة، والتعرف على ملامح المكان. في السادسة، غادرت وسائحين محليّين آخرين إلى الكثبان الرملية لطقوس الأتاي، ومشاهدة الغروب. كان الهواء يلفح المكان، ساخناً وجافاً، فيما عيناي لم تعتد الأتربة المتطايرة بعد. وصلنا إلى بقعة مناسبة للجلوس بين الكثبان العالية، وحملنا معدات تحضير الأتاي. راقبت المكان بحثاً عن أي حياة تسكنها، فيما عبد العالي، مرشدي، يجمع عيداناً جافة لتكون حطبنا. كنا وحدنا، وجدت تاغيت نائمة وهادئة. خلعت حذائي، وغاصت قدماي فوق أعتاب الكثبان الرملية، فيما أراقب الشمس تغرب، ودخلنا عالماً من الصمت النقي.
سألت عبد العالي، هل يمكننا التخييم في الصحراء؟ تلعثم، علينا أن نحصل على عدد من التصاريح، وأن يكون معنا حارس من الدرك الوطني، وطبّاخ! شرحت لعبد العالي أنني لا أريد طباخاً، فقط وجبة خفيفة من الفندق نحملها هنا، وشيء من الوجبات الخفيفة والقهوة لصباح اليوم التالي. أردت فقط أن أتلحّف بالسماء وأراقب نجوم تاغيت معظم الليل، ولكنه ليس بالأمر اليسير في الجزائر. وألغيت الفكرة من رأسي تماماً. لا يمكنك أن تكون عفوياً حينما تسافر كسائح مغامر في الجزائر.
اليوم الثاني في صحراء تاغيت
جدول زياراتي هنا -والجزائر- حافل ومزدحم للغاية. بدأنا مبكراً جداً لتفادي حرارة شمس الصحراء التي لا أتحمّلها حتى اليوم. تاغيت، المدينة الصغيرة، أشبه بقرية تتزاحم فيها القصص وحكايات الأولين. صعدنا نحو جبل بارون، لنصل إلى أطلال بؤرة استعمارية فرنسية، Fort de l’Éperon، وهي تطل على مدينة تاغيت القديمة ونخيلها من قمة تل صخري.
حكى عبد العالي قصص الاستعمار الفرنسي هنا، استغلّوا مكان التل لبناء برج مراقبة عسكري، يمكنهم فيه معرفة ما يحدث في المدينة، وواحة تاغيت، والقوافل التجارية التي تمرّ بالمكان. وحينما انتصرت الثورة الجزائرية على المستعمر، دمّر الفرنسيون برج المراقبة، وغادروا المكان. تاركين خلفهم مقبرة لجنود ماتوا خلال فترة الاستعمار الفرنسي للجزائر، ولم يستطع أهلهم حمل رفاتهم إلى فرنسا.
في جنبات القصر القديم
نزلنا من جبل بارون، لنسير في جنبات المدينة القديمة. وصلنا قصر تاغيت، المدينة القديمة المحاطة بالأسوار. مُشيّدة باستخدام طوب اللبن التقليدي، ولا تزال اليوم مأهولة جزئياً. جميع القرى القديمة في هذا الجزء من الصحراء لديها ما يسمى بالقصر، وهي مدينة قديمة مسورة تم بناؤها من أجل الحماية، وقد تم التخلي عن معظمها منذ فترة طويلة وتركها تتحلل. ولكن، خصصت الحكومة الجزائرية مؤخراً الكثير من الأموال لترميم هذه البلدات القديمة، وفي تاغيت أيضاً.
يحتوي القصر القديم على ممر صغير يؤدي إلى متاهة من الأزقة الضيقة، والتي تنحدر نزولاً على طول التل. مع مداخل خشبية منحوتة تنتشر في الممرات المبنية من الطوب اللّبِن، مما يكشف عن تناثر صغير في المتاجر ودور الضيافة المحلية. لا تزال بعض أجزاء القصر في حالة سيئة، ولكن لحسن الحظ سيتم استعادة القصر بالكامل قريباً. لا أتذكر الآن متى بُني القصر، ولكن، تخيّل أن تسير هنا، وتسمع حكايات ساكنيه، فيما تتلمّس الجدران القديمة الصامدة لسنوات. هناك، المسجد العتيق، ومقابله ركن للخطابة. وعلى أطراف الممرات دكاكين، لا، ليست جمع دُكّان الذي تعرفه.
“الدكاكين” هنا جمع دكّة، رصيف عالٍ على جنبات الممرات. فقديماً، كان الرجال يجلسون فيه للتظلل، ولكنه في الحقيقة وُجد لغرض أهم. فحينما تمرّ النساء من هنا، يقف الرجال على الدكّة، وجوههم نحو الجدار، احتراماً وتقديراً لخصوصية السيدات.
فندق البرج البوتيكي
لا أحب من الفنادق إلا نوعاً واحداً، الفنادق البوتيكية التي تحكي قصة المكان. وهذا ما وجدته في فندق البرج، وتمنّيت في الحقيقة لو أن الشركة المحلية اختارته لسكني. تناولت غداء محلياً، مختوماً بالأتاي. لا أعتقد أنني شربت كميات كبيرة من الشاي كما فعلت في الجزائر، حتى في سريلانكا!
خرجت لأسير في جنبات الفندق، محمّلة بحب الاستطلاع كالعادة. جلست تحت خيمة مفتوحة، تطلّ على الكثبان الرملية. جلس قبالتي توفيق، مُحاطاً بكمبيوتره المحمول، وأكوام من الأوراق. تبادلنا الحديث، لأعرف فيما بعد أنه المهندس المسؤول عن ترميم المبنى، وتحويله لفندق بوتيكي. أعجبت بطريقة تفكيره، بشغفه بصحراء تاغيت، ناسها، والطبيعة الجميلة فيها. تشاركنا الحديث عن صناعة السياحة، ما تدمّره وما تحسّنه، الاستدامة، والسفر الواعي. لم أتخيّل أن أجد أحداً يشاركني نفس الأفكار هنا. تحدثنا لساعات، وكان عليّ المغادرة. وقررنا أن نلتقي مساءً، حينما تخفّ حرارة الصحراء، لنراها كما يراها سكّانها، وليس السائحين.
على سفوح الكثبان الرملية
هنا اعتراف أقوله للمرة الأولى، لم أكن أعرف أن القيادة على الكثبان الرملية ممتع جداً! ركبنا دراجات رباعية من وسط مدينة تاغيت، لنصل إلى الجزء المفضل من الصحراء لتوفيق. أحب المغامرات، لكنني لا أثق في نفسي حينما يتعلّق الأمر بالسيارات والدراجات. يتزاحم الأدرينالين في كل جزء مني، بينما ننزل من قمم الكثبان الرملية، أصرخ ملء رئتي حماسة وسعادة. أصل للنهاية، وأصعد ثانية، عليّ التفكير سريعاً، خاصة مع ارتفاع الكثبان.
توقفنا مع اقتراب الغروب لنرى الشمس تغيب ببطء. يبتلعك سكون الصحراء، ويأخذ عقلك بعيداً، أنت هنا تفكر في كل شيء، ولا شيء! الهدوء الذي لم أعتده، أنا القادمة من زحام المدن الكبيرة، والشواطئ تقبّلها الأمواج. سكون الصحراء الجزائرية مختلف تماماً، يصفّي ذهنك، ويجعلك تسرح في اللاشيء. أكملنا الطريق نحو كثبان رملية أخرى، هنا، دفعات ودفعات من الأدرينالين. عمّ الظلام على صحراء تاغيت، وسكَنت المدينة متلحّفة بالهدوء.
اليوم الثالث: بني عباس، لؤلؤة الساورة
وُصِفت بلؤلؤة الساورة، والواحة البيضاء، بلدة صغيرة تتبع ولاية بشار، وعاصمة منطقة بني عباس منذ ١٩٥٧. تقع بني عباس في وادي الساورة، على الضفة اليسرى للوادي المتقطع. تضمّ سبعة قصور، بما في ذلك قلاع كبيرة مُحاطة ببستان نخيل في وادي النهر.تقع الجبال المثيرة للاهتمام بالقرب من بني عباس في سلسلة جبال أوغارتا (حول واحة أوغارتا) الموجودة في الجنوب والجنوب الغربي. في الطريق إليها، توقفنا عند إقلي، وهناك، سترى أشكالاً عجيبة من الصخور. فيما الصحراء تمتد حولك وتُنسيك تعب السفر.
من بين المناطق التي زرتها كان دار العبادة التي بُنيت خلال الاحتلال الفرنسي للجزائر. حيث احتل الفرنسيون بني عباس سنة ١٩٠١، ونشروا فيها سراياها وضباطهم. ثم استقر شارل دي فوكو (“فوكو الأب”) في بني عباس. وبمساعدة الجنود الموجودين في البلدة، بنى داراً للعبادة، مؤلفة من غرفة ومصلى وثلاثة أفدنة من الحدائق، وتم شراؤها بمساعدة ماري دي بوندي. كان القصد من حياته أن تتمحور حول قاعدة صارمة: خمس ساعات من النوم، وست ساعات من العمل اليدوي تتخللها صلاة طويلة. وسرعان ما طغى عليها الوقت الطويل الذي استغرقه للاستماع إلى الفقراء والجنود الذين يأتون لرؤيته.
قصور بني عباس
بني عباس هي مجموعة من سبعة قصور محصنة، ورُمّم للأنشطة السياحية، وهي أجمل ما يقع في قلب بستان النخيل. إنها نوع فريد من المواقع السياحية في الصحراء، وغادرها الكثير من أهلها منذ ١٩٥٧. يعود تاريخ القصر القديم المبني من الطوب وجذوع النخيل، والمواد المحلية إلى القرن السادس عشر. عاش فيها ما لا يقل عن ثلاثمائة عائلة في ذلك الوقت. ومع ذلك، فحينما تسير في جنبات القصر ستندهش من الجدران المبنية من اللّبِن لا تزال سليمة على الرغم من السنوات التي مرت. وبفضل المواد المستخدمة، يشكّل الطوب الطبيعي وسقف النخيل تكييفاً طبيعياً للهواء، ويجعل المكان بارداً في الصيف، ودافئاً في الشتاء.
اليوم الرابع: تاغيت خارج الجدول السياحي الممل
قررت الخروج من الجدول الذى أعدته الشركة السياحية، تعرف جيداً أنني أكره السفر وتمضية اليوم وكأنني سائحة صينية. قررت تسلق الجزء المقابل من الجبال التي تحيط بصحراء تاغيت ومدينتها. أوصلنا سائق أسفل الجبل، يعرف توفيق المكان جيداً، ويلجأ إليه بحثاً عن الهدوء. سرنا على سلسلة التلال، نبحث عن الثعابين والعقارب، وحيوانات الصحراء الجزائرية الأخرى. الشمس تلفح وجوهنا، فيما أقفز خائفة بين الشقوق الحجرية العالية. ترى المدينة تتضاءل عبر التلال، ولكنك لا تزال تسمع أصوات الماعز والماشية فيها. تحدثنا عن جغرافية المكان وطبيعتها، وكيف كانت صحراء الجزائر. وجدت هنا بقايا حيوانات بحرية محفورة في الحجارة، وأصداف! نعم، أصداف بحرية، تتكسر بسهولة بين أصابعي.
هبطنا نسير نحو المزارع بعد أربع ساعات، عطشى، جائعة، ومتعبة، ولكنني سعيدة.
المنحوتات الصخرية في تاغيت
ولأنني أحدثت ربكة في جدول عبد العالي الصباحي، قررت في المساء، أن أزور المنحوتات الصخرية التي تحدث عنها كثيراً. هذه المنحوتات الصخرية من العصر الحجري الحديث، تقع على بعد نصف ساعة خارج مدينة تاغيت. بين الشقوق الحجرية، والأحجار الضخمة، سترى رسومات الإنسان القديم، هنا الجواميس، والأسود، والظباء، وحتى الزرافات! كلها على سلسلة من الصخور البازلتية، منذ حوالي تسعة آلاف عام. لم أتعمّق بها كثيراً، فغالباً لا يمكن لأحد أن يروي حكاية المكان بالتفصيل. تحوّلت الآن لمعرض فني قديم، ورسائل غامضة تركها أشخاص فقدوا حياتهم منذ قرون بعيدة.
غادرنا المكان لزيارة نخيل وواحات تاغيت. على طول ضفاف نهر واد زوسفانة، تنمو الآلاف من أشجار النخيل في بساتين مورقة أسفل جدران تاغيت. حقول خضراء وعالم جميل، لا تتخيل فيه أنك لا تزال في الصحراء الجزائرية. هنا أيضاً يجدّف السائحون والمحليون الزوارق (Canoe) بين النخيل والحقول الخضراء.
الغروب الأخير في الصحراء الجزائرية
رتّب لي عبد العالي مفاجأة، لمشاهدة الغروب الساحر قبل مغادرة صحراء تاغيت. تعد الكثبان الرملية في ضواحي تاغيت إحدى أفضل الأماكن للاستمتاع بغروب الشمس الجميل في الجزائر. ستسرخي هنا، وتدخل في صمت مطبق يحيط بك.
لم أكن وحدي هذه المرة مع المرشد السياحي، حيث التقيت بصالحة، سيدة فاضلة من الجزائر العاصمة، وآخرين من الزائرين المحليين. شربنا الأتاي وتبادلنا الحديث عن ماليزيا والمناطق السياحية التي زاروها. أظلم الليل، ووجدتهم يعدون العشاء المشوي، وخبز الملّة. هذا العشاء، والظلام الدامس الذي يعمّ المكان، والأحاديث والضحك. مع تعلّم بعض الكلمات الجزائرية، ومقارنتها باللهجة المختلطة التي أتحدثها. المكان الجميل الذي جمعني بأفاضل من الجزائريين لا أزال أحمل لهم كل الودّ. هذه التجربة التي لن أنساها أبداً.
غادرت تاغيت في اليوم التالي إلى وهران الباهية، أكثر المدن الجزائرية المفضلة لدي. أو كما يسميها خالد الجابر؛ وهران الحب. سأحكي عن بعض الجمال فيها، فكُن بالقرب!
من احن الزبائن الدين تشرفت بمرافقتهم في مساري المهني مودتي لكم السيدة الفاضلة اسيا قدح