قرية بانلونغ (Banlung) الواقعة في شمال كمبوديا. محطتي الأولى في كمبوديا، والمقصد الأول للرحالة الاقتصاديين والرحالة الرقميين بعد عبور الحدود بين لاوس وكمبوديا. وصلتها بعد رحلة طويلة من جنوب لاوس. كانت رحلة مرهقة، لكنها كانت الأجمل، والأكثر رسوخاً في الذاكرة. الأيام التي قضيتها في قرية كونغ لور، ولقاء ديريك، ثم المطعم الذي يقدم أطباق ماليزية الذي وجدته في باكسي. كل ذلك أصبح حكاية ثابتة أرويها حين أُسأل عن أهم ما رأيت في لاوس. فبعد أن تخطيت الحدود، انتظرت مع مجموعة أخرى من الرحالة، كانوا في طريقهم إلى بلدة كراتي، ما يعني أننا سنكون في حافلتين مختلفتين. ركبت أخيراً حافلة محلية لمسافة تصل إلى ٣ ساعات تقريباً. كنت وحدي، كالعادة حين يكون هدفي قرى وبلدات غير سياحية، ووصلت بانلونغ قبل غروب الشمس بساعة تقريباً.
تعرف على قرية بانلونغ في شمال كمبوديا
بلدة بانلونغ (Banlung) على الرغم من أنها بلدة صغيرة، فهي عاصمة مقاطعة راتاناكيري (Ratanakiri Province) في شمال شرق كمبوديا. يتميز هذا الجزء من كمبوديا بغابات كثيفة، مما يفسح المجال لمزارع المطاط، والكاجو ونخيل الزيت. ويعتبر موطِناً لإثني عشر قبيلة أو مجموعة عرقية مختلفة من الأقليات العرقية. وهو ما منح المقاطعة نوعاً من التنوّع الثقافي والحضاري تشعر به في أول وهلة. تنمو بلدة بانلونغ بشكل بطيء، على نفس الرتم الذي تنمو به كمبوديا. وحين زرتها، رأيت الكثير من الطرق الجديدة التي يتم بناؤها. أضف إلى ذلك محاولات التغلّب على الفيضانات المستمرة في موسم الأمطار.
أفضل وقت لزيارة بانلونغ
لا أتقيّد عادة بهذا الشرط حين أسافر إلى أي مكان. يهمني فقط أنه ليس موسماً سياحياً بالكامل بما أنني أفضّل الهدوء أكثر. ومصادفة، كانت الفترة التي زرت فيها كمبوديا بشكل عام بعد موسم السياحة والصيف. أما بانلونغ (Banlung) فيفضّل زيارتها مابين أكتوبر وحتى فبراير. متوسط درجات الحرارة في بانلونغ تختلف قليلاً. وبما أنها منطقة رطِبة، فإن درجات الحرارة تبدو لطيفة في معظم أوقات السنة. باستثناء بعض الأسابيع الحارة في الصيف، مع احتمال سقوط أمطار قليل جداً على مدار العام. والمنطقة أكثر اعتدالاً مقارنة بغيرها في كمبوديا. الأشهر الأكثر سخونة هي أبريل ومايو ثم يونيو. وعادةً ما تكون بانلونغ أدفأ في شهر أبريل من كل عام.
بوتيا.. رب العائلة في بانلونغ
إحدى العادات التي رسخت فيّ خلال السفر والتنقلات المستمرة، أنني لا أحجز إلا ليلة واحدة أو ليلتين على الأكثر في المكان الجديد. أي مكان. حتى لو كان قرية بمساكن أو فنادق قليلة. أفعل ذلك حتى لا أتورّط في المكان. تكرر الأمر ذاته في بانلونغ. اخترت سكناً مشتركاً اقترحه عليّ هاقاي، الرحالة الإسرائيلي حين أقام هناك. كان بيت عائلة صغيرة، وبالفعل، كان حتى مسمّاه كذلك Family House. ولأنني أردت غسل كل العوالق السلبية من تجربة الحدود، اخترت غرفة خاصة. أردت أن تكون بانلونغ (Banlung) مكاناً لغسل وتطهير قلبي وروحي. هذا المكان يليق بالهدوء أكثر من أي أمرٍ آخر.
الحياة مع الكمبوديين
ولأنها كمبوديا فالجميع يحاول بيعك أي شيء، كل شيء. لذلك أخبرت بوتيا -ربّ العائلة- منذ البداية أنني هنا للاستجمام لا أكثر. لا أريد أي رحلاتٍ سياحية، أو عروض للرحالة. أريد فقط أن أستريح ليلتين، وربما أقيم سبعة أيامٍ هنا. كنت أعلم أن لدي الكثير من الوقت لأستكشف المكان ببطء، على الرتم الذي أحب. أخبرته كذلك أنني سأعمل غالباً طِوال اليوم، فأريد ركناً هادئاً. كان بوتيا متفهماً جداً. ساعدني كثيراً خلال إقامتي هناك، وخصص لي ركناً للكتابة والاسترخاء. هناك فناء خارجي مظلل، وفي عواميده قوابس للكهرباء. لم يُبالِ حين أخبرته أنني أحمِل معي مشروباتي معي، بل سمح لي بوضعها في ثلاجته. وفي الليل، كنا نتناول العشاء سوية، أنا وعائلته. التقيت كذلك بعائلة أسبانية يقضون إجازة قصيرة في بانلونغ (Banlung) وكانت طاولة العشاء دائماً حافِلة.
شلالات كاتشانغ (Kachang Waterfall)
هو شلال متدفق ثابت بارتفاع اثني عشر متراً تقريباً. يقع في منتصف الطريق بين قناة Ou ka و نهر Sre Pork. من أجمل الشلالات التي رأيتها وزرتها في كمبوديا. يقع بالطبع في غابة صغيرة يمكن المشي فيها بسهولة. يمكنني وصفه بشلال طبيعي جميل ملفت للأنظار وتحيط به الغابات. على مقربة من النهر ومن مزارع المطاط. من الأفضل مشاهدة الشلال من الأسفل. لذلك نزلنا إليه عبر سلالم خشبية. هناك أيضاً جسر خشبي معلق لمن يريد المشي إلى الناحية الأخرى. حوافّ الشلال محمية بأشجار ضخمة تظلل المكان.
في الأعلى، ستجد مظلاتٍ كبيرة للجلوس والاسترخاء فيها. مكثنا قليلاً من الوقت حتى يتسنى لنا زيارة الشلالات الأخرى. كانت الأجواء مريحة للغاية رغم قوة الشمس حينها. كان يحكي ديريك عن زيارته السابقة في موسم الجفاف، كان الشلال أصغر ولما يكن بهذه العظمة.
شلالات كاتيانغ (Ka Tieng Waterfall)
يقع على بعد ثلاثة كيلومترات من شلالات كاتشانغ (Ka Chang Waterfall) في بانلونغ. ما يجعل عدم زيارته أمراً غير معقولٍ أبداً. يصل ارتفاع هذا الشلال إلى ١٠ امتار تقريباً. ستجد حوله مناطق مظللة كذلك للتخييم أو حتى لرحلات الشوي. وكسابقتها، يفضّل مشاهدة الشلال من الأسفل للاستمتاع بجماله. يمكنك الوصول إليه عبر سلالم خشبية آمنة. وفي النهاية؛ ستجد صخور طبيعية ضخمة يمكنك الجلوس عليها للاسترخاء كذلك. جلست هناك بالطبع وكانت من أجمل اللحظات حين يتطاير الماء على وجوهنا وأجسادنا في يوم حار.
للأسف، ستجد في أعلى الشلال كذلك مالكي جولات الأفيال. توقّفت عندها خمس دقائق. أرجوك، لا تركب هذه الحيوانات الضعيفة، هي ليست للركوب. كنت أنظر في وجه أكبر الفِيلة الموجودة، كان حزيناً. نظرت في عينيه، ويمكنني رؤية الحزن والضعف والخذلان. هذا النوع من السياحة يضرّ بالحيوانات ويضرّ بالطبيعة التي نريد أن نستمتع بها، وتستمتع بها أجيال وأجيال بعدنا.
شلال تشا أونغ (Cha ong Waterfal) في بانلونغ
الشلال الأقرب إلى قلبي، وأحبّه في هذه القرية، كنت مذهولة جداً حينما وصلنا هناك. لا أدري هل هو حجم شلال تشا أونغ (Cha ong Waterfall) أو شكله، لكن هناك رهبة غريبة في المكان. كانت المرة الأولى التي يمكنني فيها الوقوف خلال شلال كبيراً بهذا الحجم، حتى أنني أخبرت ديريك بالأمر ولم يتصوّر الأمر.
يقع في وسط الجبال، ويحتوي على مجرى مائي يبلغ ارتفاعه 25 كيلومتراً. يمكنني اعتبار شلال تشا أونغ (Cha ong Waterfall) مدهشاً للغاية وغابته لا تزال طبيعية عذراء. تحيط بها طبيعة جميلة ومغطاة بجبال صخرية. تبِعت ديريك بحكم معرفته بالمكان. هناك سلالم خشبية وسط أشجار كثيفة تحجب عني رؤية المكان بأكمله. كلما نزلت، كلما علا صوت الشلال.
ثم.. كانت المفاجأة الأكبر، كهف بسقف كبير، يمكنك السير فيه بسهولة. وقفت هناك، في ذلك النتوء الصغير الذي يحميني من السقوط. جلست هناك، أغسِل قلبي، أغسل روحي. تركني أجلس مطوّلاً تغمرني مياه الشلال على وجهي. صوته القوي يسحب معه كل الأفكار السلبية التي حملتها معي. وقفت أطبطب على وجع قلبي، وأرميه هنا. هذا المكان، جعلني أحب كمبوديا في بداية الرحلة. هذا المكان، جعل بلدة بانلونغ (Banlung) في عيني مزاراً عظيماً.
السباحة في بحيرة يِك لاوم (Yeak Laom Lake) في بانلونغ
سمعت الكثير والكثير عن هذه البحيرة قبل زيارتها. تعتبر بحيرة يِك لوام (Yeak Loam Lake) من أشهر الوجهات السياحية في بانلونغ (Banlung). والتي تقع على بُعد ثلاث كيلومترات منها. تشكّلت البحيرة على فوّهة بركانية عمرها أربعة آلاف عام. ونظراً لعمق البحيرة الهائل الذي يبلغ حوالي ٥٠ متراً، فإن مياهها نظيفة وواضحة بشكل استثنائي. تأخذ البحيرة شكلاً دائرياً تقريباً ويبلغ قطرها حوالي ٠،٧٢ كلم. وهي محاطة بأشجار كبيرة عالية، وغابات مطيرة. يُقال كذلك أنها موطن للعديد من الحيوانات والطيور الغريبة، لكنني لم أرَ أياً منها ذلك اليوم.
وصلنا البحيرة بعد زيارة الشلالات الثلاث. كنا مرهقين للغاية ولا نبحث إلى عن أي طريقة للتبريد. وبالطبع، كانت البحيرة هي الجواب. حين وصلتها كانت الساعة الرابعة والنصف تقريباً، وتغلق البحيرة مع الغروب في السابعة مساءً. هناك مكانان على طول الضفة حيث يمكن للزوار الاسترخاء والتمتع بمنظر بانورامي للبحيرة والنباتات والحيوانات. يوجد مركز للمعلومات السياحية على الضفة الغربية. وفي الخارج تُباع المنتجات اليدوية التي يصنعها سكان القبائل والقرى المجاورة.
أساطير…
هناك الكثير من الحكايات المرتبطة ببحيرة يِك لوام (Yeak Loam Lake) والكثير من الأساطير. ويبدو أنه من الجيد أنني لم أعلم بأكثرها إلا بعد أن غادرتها. تعتبر البحيرة كذلك مكاناً للعبادة للقبائل التي تسكن التلال. إنهم يعتقدون أن هناك روحاً قوية تمتلك الأرض والغابات المحيطة بها. لم تكن تهمّني في الحقيقة. حين وصلت المكان، جلست مباشرة على الضفة. مددت قدميّ في الماء البارد وكأنني أستنجِد به. لم يكن بارداً جداً، لكنه يكفي لتبريد أجسادنا التي كانت تحت الشمس طوال اليوم. لم أقرأ عن المكان بالطبع قبل أزوره، كنت قد سمِعت عنه فقط.
أذكر مرة أن أخبرنا أحد الكمبوديين بأن عمقه ٢٥ متراً. لم أصدقه أو يصدقه أحد ممن معي، قلنا ربما كان مخطئاً، ولم يعرف الأرقام بالإنجليزية. ربما كان يقصد مترين ونصف وليس ٢٥ متراً، وعليه؛ قفزت في الماء، وغُصتُ أبحث عن عمقه. لا أعرف كم مرّ من الوقت، لكنني ما عدت أستطيع التنفس ولم أصل إلى أي عمق! وصدّقت بعدها أنه أكثر من مترين ونصف! 🙂
ماذا بعد بانلونغ؟
بعد أن زرت كل هذه المناطق السياحية في بانلونغ (Banlung)، أردت إكمال فترة النقاهة والراحة فيها. مكثت عدداً من الأيام فيها يكفي لأن يجعلني أتحمّس للوجهة التالية؛ كامبوت (Kampot) في جنوب كمبوديا. بطبيعة الأمر مررت بالعاصمة فينوم بنه (Phnom Penh)، لكنني لم أمكث فيها أكثر من ليلة واحدة. فإلى جانب أنها لا تستحق أكثر من ذلك، تزعجني العواصم المزدحمة وضجيجها. شققت طريقي إلى كامبوت للمشاركة في عمل تطوعي. سأحكي كل تفاصيل الحكاية في التدوينة القادمة.. كونوا بالقرب! 🙂
هذه أول قراءاتي لك اسما ويبدو انني سأستمتع بها كثير ، سنكون بالقرب واستمري