السفينة الإندونيسية.. كانت الحل الذي استطاع صديقي الروسي اقتراحه عليّ كبديل للرحلات الجوية الداخلية مرتفعة السعر في إندونيسيا. وكحلّ أخير بعد أن فشلت محاولاتنا في الإبحار من ميناء مكاسار إلى ميناء سورونغ في بابوا الغربية بقارب خاص. لا أنكر أنني كنت مستاءة من عدم الإبحار إلى جزر راجا أمبات، وأن ركوب سفينة كبيرة كهذه ليس بالأمر الممتع أبداً. لكنها كانت تجربة غنية، ومليئة بالأحداث التي مازلت أتذكّرها وكأنها كانت بالأمس.
كيف بدأت هذه التجربة؟
إن كنت من المتابعين المستمرّين في المدونة، فستعلم أنني بدأت رحلاتي في إندونيسيا من سومطرة. قضيت فيها شهراً كاملاً تقريباً، تنقّلت فيها من شمالها إلى جنوبها. ثم أنهيتُ الجزء الأول من رحلاتي في إندونيسيا بزيارة جاكرتا وباندونق. وفي تلك الأثناء، كنت أرتّب لزيارة جزر راجا أمبات (Raja Ampat) في أقصى غرب إندونيسيا. ولأنني أحمِل جواز سفر ماليزي، لم يكن مسموحاً لي سوى الإقامة ثلاثين يوماً في إندونيسيا. اضطررت حينها العودة إلى كوالالمبور لمدة ثلاثة أيام. ثم أغادر بعدها إلى إندونيسيا، لتكون الجزء الثاني من رحلاتي هناك.
الجزء الثاني من استكشاف إندونيسيا
غادرت كوالالمبور جواً إلى مدينة مكاسار لعدة أسباب:
- كونها الخيار الأقل تكلفة للوصول إلى إندونيسيا من كوالالمبور، مقارنة بمدينة أمبون.
- طول المسافة بحراً من مكاسار إلى سورونغ مقارنة بالموانئ الأخرى. والذي يعني متعة أكثر في الإبحار.
- الأمان وسهولة الإبحار منها مقارنة بالطرق الأخرى، من الفلبين مثلاً.
كانت الخطة الأساسية هي الإبحار في قارب خاص من مكاسار إلى سورونغ، والتي كانت إحدى الأسباب الرئيسية في سفري إلى بابوا الغربية، شرق إندونيسيا. بدأت في هذه الترتيبات من أكتوبر العام الماضي، وبحكم الإجراءات الرسمية البطيئة، لم ننتهِ منها إلا في ديسمبر. بداية من المراسلات مع مَن سيقومون بترتيب رحلتنا، وانتهاءً بالإذن للإبحار. كانت لديّ الموافقات كاملة، أو هكذا ظننا، بناءً على ما وصلنا من تأكيدات. لأُفاجأ بعد وصولي إلى مكاسار أنه لن يمكننا الإبحار بقوارب شراعية أو قوارب كاتاماران. استأت من هذا القرار المفاجئ، خاصة وأنني كنت أستعد وأتمرّن لهذه التجربة خلال السنوات الأخيرة.
خيارات بديلة
اختيار زيارة جزر راجا أمبات يرجع إلى رغبتي في الغوص الحر مع أصدقاء التقيتهم في لاوس وفيتنام. إضافة إلى أنني كنت مستاءة من أنني لن أبحِر بنفسي بالطبع، لكنني مازلت أتطلّع للذهاب إلى بابوا الغربية وجزر راجا أمبات. كان أمامي خيارين فقط: السفر جواً في رحلة داخلية من مكاسار إلى سورونغ. أو، الإبحار في السفينة الإندونيسية، بالطريقة التي يسافر بها المحليّون. وإن كنت ممن سافروا في أرجاء إندونيسيا سابقاً، فستعلم أن الرحلات الداخلية مرتفعة التكلفة جداً. بغضّ النظر عن السفر في اليوم نفسه أو التالي، أو حتى بعد أسبوع. وعليه؛ لم يكن أمامنا سوى السفر عبر السفينة الإندونيسية. وهي الطريقة الوحيدة المتاحة أمامنا، حسب ما أخبرني بها Stan، صديقي الروسي.
ما قبل العيش على ظهر السفينة الإندونيسية
كان عليّ -بالطبع- شراء تذكرة السفينة الإندونيسية عبر مكاتب البيع. لمَ؟ لأنني كنت متأخرة، وعرفت مصادفة أن هناك رحلة مغادِرة من مكاسار في نفس اليوم الذي وصلت فيه. كما أنه لا يمكن شراء تذاكر السفينة على الانترنت، إلا لمن يملك حسابات أو بطاقات بنكية إندونيسية، أو عبر منافذ الدفع في محلات مثل 7Eleven. من ناحية أخرى، فإن تذاكر الفئة المتاحة للبيع على الانترنت ليست إلا الدرجة الاقتصادية. وهي، عن تجربة متعبة، ليست بالفكرة الجيدة بتاتاً، خاصة في إندونيسيا. ولم تكن هذه آخر الصدمات أبداً..
الصدمة الأولى: ميناء ماكاسار
نصف العناء خلال السفر في إندونيسيا يعود إلى سائقي الحافلات المتحلقين حولك. ونصفه الآخر في الخدمات المتدنية، بأسعار مرتفعة، مقارنة بدول أخرى، فيتنام مثلاً! هنا، وصلت إلى الميناء العمومي، والذي منه تنطلق كافة الشحنات من وسط إندونيسيا إلى شرقها. ضع خطوطاً كثيرة تحت “كافة الشحنات”، لأن هذا سيشمل سفر السكان المحليين أيضاً. لأن إندونيسيا ضخمة ومترامية الأطراف، فإن السفر الجوي مكلّف للغاية، وهذا ما جعل السفر البحري أقل تكلفة على السكان المحليين. هنا أطنان من الشحنات، ومجموعات من البشر في طريقها إلى جزر أخرى في الشرق. المؤسف حقاً أن ميناءً مثل ميناء ماكاسار لا يحتوي على خدماتٍ تتناسب مع كونه أحد الموانئ الرئيسية في البلاد. وبطريقة ما، عرفت أنه يمكنني الدخول إلى القاعة المكيّفة بساعة واحدة قبل انطلاق الرحلة.
الليلة الأولى على ظهر السفينة الإندونيسية
الأحد، الثلاثون من ديسمبر ٢٠١٨: كان من المفترض أن تنطلق السفينة في الحادية عشر مساءً. انتظرت في القاعة حوالي ساعة ونصف، كان هذا الجزء مرتباً ونظيفاً على الأقل. وصلت السفينة أخيراً في الحادية عشر والربع، ولاحظت أناساً واقفين على حوافها. وآخرون يعبرون من الممر المخصص خارجين، إلى القاعة التي أجلس فيها. بدأ المسافرون المحليّون يتزاحمون عند الممر ذاته، خاصة بعد أن انطلق الإعلان بالمغادرة. لم تكن هناك أي أدلة لوجود صفوف، كل ما أعرفه أن المجموعات تدفع بعضها البعض.. تمكنت من المرور بعد أن تم فحص تذاكر السفينة وجواز السفر.
رأيت ٣ أفراد يحملون كاميرات تلفزيونية موجّهة على كل الركاب، فيما سيدات يرحّبن بالجميع. لم أفهم ما الذي يحدث، وظننته أمراً طبيعياً يحدث في هذا النوع من السفن في إندونيسيا. اكتشفت فيما بعد أن الكاميرات تابعة لبرنامج ترويجي في قناة محلية، والسيدات مجرد تمثيل! 🙂 حسناً.. ليس هذا بأمر مهم في الحقيقة.
الصدمة الثانية: الدرجة الاقتصادية
والتي تعني باختصار النوم في غرفة كبيرة جداً تسع أكثر من ٥٠ شخصاً، على أسرّة متراصّة جوار بعضها البعض. بدون أي طريقة للتهوية أو فواصل بين الأسرّة، وبطبيعة الأمر حمامات مشتركة، لكل مَن يسكنون تلك الغرفة. لم أتوقع الكثير حين حجزت تذكرتي على متن السفينة. وفي الحقيقة، حذّرني “Stan” كثيراً فيما يخص هذه الرحلة عبر السفينة. ما الأسوأ فيها؟ القاعات مغلقة بالكامل، ولا نوافذ، فيما السادة في الداخل يدخّنون، حتى أمام أطفالهم!
عليّ الاعتراف بأمر مهم هنا، لم يؤدبني أو يغير السفر في أي أمر يخص الحرص على النظافة والنوم! كنت أشكر كل الآلهة التي أعرفها ولا أعرفها لأنني حملت معي منادل معقّمة. رسم لي ذهني أن كل شبر في المكان تتربّع على عرشه جراثيم معدية، كانت ليلة بئيسة من الدرجة الأولى. وضعت حقيبتي على “السرير” وفرشت حقيبة النوم (Sleeping Bag) بعد أن عقّمت ما حولها. ثم غادرت للأعلى، كمحاولة لتنفّس هواء نقي، أو على الأقل بدون رائحة الحمام. قضيت ساعتين أخرى في الأعلى بانتظار انطلاق السفينة، والتي ما أن غادرت الميناء حتى أصبح الهواء أكثر انتعاشاً. لن أتحدث هنا عن النظرات التي تتبعني أينما ذهبت. لا لشيء، ولكن، أصبحت أحاسيسي مضادة لها بعد سومطرة.
اليوم الأول على ظهر السفينة الإندونيسية
الإثنين، الحادي والثلاثون، ديسمبر ٢٠١٨: استيقظت في الثالثة صباحاً على صوت موسيقى عالية جداً، واكتشفت فيما بعد أنها تنبعث من هاتف المرأة جواري. أسكتّها بعد أن أزعجتني، وهو ما أكرره في نومي. في الخامسة، سمعت صوتها تتحدث مع مرافقيها في الرحلة بأعلى ما فيها، ريثما تدخّن أمام أطفالها. اضطررت هذه المرة أن أبدأ اليوم، فالنوم هنا يبدو مستحيلاً باستيقاظ البقية.
لملمت كل ما سأحتاجه خلال اليوم، وصعدت للأعلى. اتخذت مكاناً في آخر السفينة، يطلّ على البحر مباشرة لأتنفس هواءً نقياً. كانت الأجواء جميلة في الأعلى هنا، رغم الرطوبة. السماء زرقاء صافية، فيما تتكتّل السحب على مسافات. كانت تذهلني تشكّلات السحب بين فترة وأخرى، وأرى عن بُعد عدداً من الدلافين تسبح حرّة. يمكنني رؤيتها على الرغم من البُعد، وينشرح صدري. اشتدّ الحر مع الظهر، ولم تكن هناك طبعاً وسيلة للاستحمام. لم أرد حتى مجرد المحاولة، فالحمام مغطى بالميكروبات! وللمرة الثانية؛ كانت المناديل المعقّمة صديقي المفضل هنا. ولحسن الحظ، أمطرت في الظهيرة، لتتحسن الأجواء أكثر وأكثر حتى نهاية اليوم. أكثر ما خفف عليّ ما رأيت أن كان كتاب أنتوني بوردين رفيقي المفضل هنا.
غروب ساحر..
كنت أنتظر الغروب مع تشكّلات السحب بعد المطر. ربما أكثر مما تعلّمته خلال سفري هو معرفة الاتجاهات حتى أستعد لمناظر الشروق والغروب في أي مكان أزوره. لم يكن هناك أي شيء يمكنني عمله في الأساس سوى القراءة ومشاهدة ما يحدث في الأفق. كان الغروب بمثابة تربيتة على قلبي للتخفيف عما يحدث في السفينة. أعتقد أنك الآن ستعرف تلقاء نفسك كيف قضيت ليلة رأس السنة على السفينة، لم تكن مليئة بالألعاب النارية طبعاً. ولم يكن الأمر يهمني في الحقيقة.
اليوم الثاني على السفينة الإندونيسية
الثلاثاء، الأول من يناير ٢٠١٩: حسناً.. من المقرر أن نصل ميناء جزيرة أمبون (Ambon Island)، قبل أن نبحِر في بحر سيرام. وصلنا بعد ٣٤ ساعة من الإبحار. نعم، ٣٤ ساعة! لا أذكر متى كانت آخر مرة كنت فيها سعيدة بالوصول إلى أي وجهة أزورها. كان الأمر مختلفاً قليلاً هذه المرة، لم تكن أمبون جزيرة أريد التوقف فيها في الأساس، لكنني أردت فقط المشي في أي مكانٍ آخر غير السفينة. كان من المقرر أن نتوقف حوالي ساعة في هذا الميناء لإنزال مجموعة من الركاب وصعود آخرين. وربما كان الراكبون الجدد مختلفون عمن سبقهم، معظمهم الآن من الباعة المتجولين ببضائع تتفاوت مابين وجبات سريعة أو سجائر.
ثم مرّ اليوم الثاني على السفينة دون أي شيء مختلف. كل ما يهمني هنا أننا قاربنا على الوصول.
الوصول إلى ميناء سورونغ في إندونيسيا
الأربعاء، الثاني من يناير ٢٠١٩: وصلنا أخيراً ميناء سورونغ! هذه اللحظة التي انتظرتها خلال الساعات الخمس وخمسين الماضية. خمسة وخمسون ساعة على متن السفينة الإندونيسية التي استهلكت كل طاقاتي الذهنية والجسدية. حاولت مغادرة هذه السفينة بأسرع وقت ممكن.
غادرت من هذا الميناء إلى مرفأ آخر، لأتمكن من ركوب القارب/العبارة التي ستأخذني إلى ميناء وايساي. والذي يعتبر البوابة الرئيسية لجزر راجا أمبات. ومن هناك؛ بدأت رحلتي لأجمل أسبوع قضيته في إندونيسيا. سأحكي كل التفاصيل المتعلقة بها في هذا الرابط، وكل المغامرات والمناظر الجميلة التي شاهدتها.. ابقوا بالقرب! 🙂
للإطلاع وقراءة كافة التدوينات التي كتبتها عن المناطق التي زرتها في إندونيسيا على هذا الرابط.
لا تعليق