واحة سيوة

يقول مارسيل بروست: “رحلة الاكتشاف الحقيقية لا تنحصر في رؤية أرض جديدة، بل في الحصول على رؤىً مختلفة“. أشعر أن هذه المقولة أفضل مقدمة لتدوينتي الأولى عن واحة سيوة، والسكن في فندق تاليست لمقابلة سيدة الفندق، نبيلة عزيز.

كُنت أخطط هذه المرة لخوض تجربة جديدة بعد رحلتي السابقة والسريعة إلى قرية تونس. لم أكن أتوّقع أن تكون فريدة لهذه الدرجة. كانت الخطة تتمثل في زيارة واحة سيوة التى تبعد عن القاهرة حوالي ١١ ساعة، تقطعها عبر الصحراء. أو حوالي ٩ ساعات بدون توقف عن مدينة طنطا التي أسكن بها. لم أعلم أن هذه المسافة ستنقلني لعالم موازٍ، مختلف كلياً عما تعودت عليه أو زرته من قبل.

واحة سيوة

لم تكن تجربتي فريدة بسبب الواحة فقط. ولكن مكان إقامتي بها، فندق تاليست سيوة، وراءه حكاية وتجربة مشوقة لأسرة اسكندرانية. فعلى الرغم من أنني لم أقضِ سوى أربعة أيام فقط بواحة سيوة، لكنها كانت تجربة مليئة بالأحداث والحكايا. لذلك يبدو أن تدوينة واحدة لن تكفيها، لأعطيها جزء من حقها. أكثر أمر متأكدة منه الآن بعد عودتي، إنها تجربة تستحق أن تعيشها ولو لمرة واحدة في حياتك. حتى أنني أشك أنك لن تكرِّرها أكثر من مرة. أنا شخصياً أنوي تكرار هذه الزيارة مرة سنوياً على الأقل.

كيف تبدو واحة سيوة؟

تعتبر واحة سيوة إحدى أكثر الأماكن عزلة في العالم. تقع في أقصى صحراء مصر الغربية، والتي تبعد حوالي ٣٠٠ كم عن ساحل البحر المتوسط إلى الجنوب الغربي من مرسى مطروحكما تبعد ٨١٠ كم عن القاهرة ، و ٦٥ كم عن الحدود الليبية. ستجد بشاير الواحة في استقبالك على الطريق حتى قبل دخولها.  ستستقبلك أشجار النخيل والزيتون بخفة على جانبي الطريق تقريباً بعد مشاهدة لوحة الكيلو ٧ على طريق مرسى مطروح/سيوة. وستزداد بالتدريج كلما اقتربتَ من الواحة.

على الرغم من أنَّ معظم أرض واحة سيوة ليست إلا صحراء ورمال، إلا أنني وجدت نفسي خلال دقائق محاطة بأشجار النخيل من كل مكان. في الشوارع، بين البيوت والأراضي.  حتى أن أغلب الطرق تشبة الممرات بين صفوف أشجار النخيل التي تظلها بفروعها من كل اتجاه. اكتشفت بعد وصولي للواحة بدقائق قليلة فقط لماذا يطلق عليها المصريين (جنة على أرض مصر). حتى أنت أيضاً يمكنك الآن تخيّل ذلك.. واحة سيوة لوحة فنية داخل الكثبان الرملية.

سبب تسمية واحة سيوة

سبب تسمية الواحة

يُرجح البعض أن اسم سيوة جاء من كلمة “سيخت آم” وتعني أرض النخيل. أو يعود إلى الاسم القديم “ثات”. سميت الواحة قديماً بأسماء عديدة منها “بنتا”، وقد وُجدَ هذا الاسم في إحدى النصوص المدونة في معبد إدفو. عرفها العرب  قديماً باسم “الواحة الأقصى”، وهو الاسم الذي ورد في خطط المقريزي. كما أشار إليها ابن خلدون باسم “تنيسوة”. وهو اسم لفرع من قبائل الزنتانة في شمال إفريقيا، حيث يسكنها قوم خليط بين الأمازيغ والبدو.

ماذا عن أهل واحة سيوة؟

أهل سيوة من قبائل الأمازيغ. وهم مجموعة من السكان الأصليين في شمال أفريقيا وتحديداً المغرب والجزائر، وتونس، ليبيا، موريتانيا، شمال مالي، شمال النيجر. إضافة إلى جزء صغير من غرب مصر، وبالتحديد في واحة سيوة. يسكن الواحة حوالي ٣٥ ألف شخص، معظمهم يعملون إما بالزراعة أو السياحة. وستجد أن لديهم عادات وتقاليد تختلف عن أهل مصر. وبسبب انعزال الواحة نسبياً عن المناطق المحيطة بها، ستجد العديد منها لم تتغير حتى الآن.

ملابس أهل واحة سيوة

 نادراً ما تجد شخصاً من أهلها يرتدي أزياء معاصرة. السائد هو الجلباب السيوي التقليدي، حتى النساء لم أتمكن من رؤية وجوههم أو أعينهم. فمن عادات أهل سيوة أن المرأة المتزوجة لا يرى ملامحها أي شخص في الشارع. الجميع مازال مُحافظاً على الأزياء التقليدية، عدا الأطفال هم فقط مَن كانوا يرتدون ملابس شبه عصرية.

وحسب رواية “شيماء” -التي تعمل في إدارة أحد الفنادق بسيوه- “من الصعب جداً أن تجدي محلاً هنا يبيع الملابس الحديثة، مثل: البناطيل الجينز أو القمصان. لذلك يتوجب علي أن أُحضِر كل شيء أحتاجه، من مرسي مطروح قبل أن آتي إلى هنا.”لكن هذا لا يعني أنك لن تجد أي ملابس هناك، ففي السوق السيوي ستجد بناطيل من القماش وشيلان (مِلحفة من القماش الخفيف، تُلقى على الرأس فتنسدل على الرقبة والكتفين) المطبوعة بالنقوش والرسومات السيوية.

يتحدث أهل سيوة لغتين أساسيتين الأمازيغية مع بعضهم فقط، والعربية مع أي ضيف عربي. وبعضهم يجيد الإنجليزية، بحكم طبيعة عملهم في السياحة.

Booking.com
فندق تاليست سيوة

حكاية فندق تاليست سيوة

اتخذت عائلة اسكندرانية تجمع بين حب الفن ودراسة الهندسة من واحة سيوة مستقراً لهم، وبنوا  فندقاً بيئياً بأيديهم في سيوة.  بدأت الحكاية عندما قررت السيدة “نبيلة عزيز ” وزوجها المهندس “السيد” شراء قطعة أرض في واحة سيوة. اشتروها كاستثمار مستقبلي لأبنائهم الثلاثة، دون أي تخطيط أو نية للإنتقال من الإسكندرية، ولكن القدر كان يخبئ لهم شيئاً آخر.

قامت العائلة فعلياً بشراء قطعة الأرض بعد العديد من الجولات داخل الواحة. كانت تبعد حوالي ١٠ كم عن قلب الواحة، في مكان يشبه اللوحة الفنية. تخيل كيف أن الشمس تغرب عليها من الجانبين، على يمينها جبال وعلى شمالها بحيرة. من هنا بدأوا التفكير في كيفية استغلال هذا المكان، والاستفادة من الطبيعة البكر التي لم يؤثر عليها البشر حتى الآن. خطرت على أذهانهم فكرة إنشاء فندق بيئي، يساعدهم على استثمار هذه الأرض، والحفاظ على الطبيعة، واستقبال الزائرين الذي يحبون هذا النوع من الفنادق. ومن هنا بدأت حكايتهم مع سيوة منذ أكثر من ١٩ سنة.

فندق تاليست واحة سيوة

سبب بناء فندق تاليست على الطراز البيئي؟

سألت “إيهاب” -ابن السيدة نبيلة الأكبر، ومساعدها الأول في إدارة فندق تاليست-  عن سبب اختيارهم للنظام البيئي، قال: “قرارنا أن نبني الفندق على النظام البيئي لم يكن نابع منّا في البداية، عندما أتينا للواحة كانت هذه هي طبيعة الحياة هنا. الطبيعة هي التي فرضت علينا هذه الحياة في البداية، فقلنا لمَ لا نعود للطبيعة  التي دمرها الناس، خاصة وأن هذه الحياة هي التي كانت تحلم بها أمي وكانت تبحث عنها دائماً”.

عقّبت السيدة نبيلة: “لا أسمح لأي شخص طوال عمري برمي شيء في الطريق، وعلّمت أولادي ذلك منذ الصغر. لا أتخيل رؤية شخص يرمي عقب سيجارة في أي مكان على الرغم من أنني أدخّن شخصياً.” ثم أكملت، “أكثر شيء شجعني لهذا المكان أنه سيساعدني أنا والسيد على أن نعمل بهوايتنا وفي أشياء نُحبها. أنا شخصياً أحب الأعمال اليدوية، حتى أنها كانت مصدر دخلي الأساسي قبل الانتقال إلى واحة سيوة، لكن هنا أصبح الأمر مختلف؛ أنا أعمل بفندقي.  حتى “سيد”، زوجي، إنه مهندس معماري ماهر، وكان شغوفاً دائماً بأعمال الخشب ولديه القدرة على  صنع أي شيء يمكنك تخيله”.

سبب انتقال العائلة لواحة سيوة

وبالفعل بنَت العائلة فندقها البيئي الأول في سيوة، ثم قاموا ببيعه لأحد المستثمرين -مغربي الجنسية- وبنَوا بعده فندقهم البيئي الثاني، الذي يعملون به الآن، ويخططون لتطويره أكثر مستقبلاً. 

عندما سألت “نبيلة” عن سبب اختيارهم الإنتقال لسيوة بالتحديد، قالت لي: ” أصبحت الاسكندرية مزعجة بالنسبة لي، وكنت أرغب في عمل استثمار لأولادي، لديّ ثلاثة شباب بحاجة لتأمين مستقبلهم. وبسبب حُبنا للطبيعة اخترنا واحة سيوة، وليس من طبيعي أبداً أن تأتي إلى مكان مثل سيوة ووسط الطبيعية هذه وتبني فندقاً بالخرسانة! أي شخص يأتي إلى هنا يكون هدفه هو الاستمتاع بالطبيعة، يبحث عن مكان مختلف، به روح جديدة وطاقة نظيفة،  لذلك نقوم نحن بزراعة أغلب أنواع الخضراوات التي نحتاجها في المزرعة المجاورة للفندق؛ لنضمن أنها طبيعية ١٠٠٪.

فندق تاليست واحة سيوة

كيف يبدو فندق تاليست سيوة؟

ستجد مدخل الفندق على بعد مائة متر من بحيرة سيوة. ستمشي قليلاً في بدايته عبر ممر حجري، وفي نهايته مدخلين، أحدهما لغرفة استقبال الفندق، والأخر للمزرعة المرفقة بالفندق. بدخولك غرفة الاستقبال، ستجد نفسك قد انتقلت لعالم مختلف تماماً، بداية من هذه الغرفة نفسها. ستجد روح مختلفة تملىء المكان بالدفء، و الفن الذي سيربكك قليلاً، لوحات فنية جميلة على الجدران، أشغال ومصنوعات يدوية معلقة في كل زاوية، تصميم مميز وخاص لـلكراسي. أشغال يدوية يغلب عليها الطابع السيوي والأنثوي في كل ركن، بداية من الستائر والمعلقات على الحوائط، وحتى المخدات والتحف الموزعة بفن على الطاولات. كل شيء ينقل لك إحساس ودفء المنزل.

أعمال فنية داخل فندق تاليست واحة سيوة

“كل شيء مصنوع بحب بيد نبيلة والسيد’

المفاجأة التي اكتشفتها أن كل شيء في الفندق مصنوع يدوياً، (مصنوع بحب في ورشة سيد ونبيلة)، عندما سألت “نبيلة” عن صاحب فكرة تصميم الفندق والديكور، قالت لي وهي تشير إلى كرسي بجواري: ” أترين هذا الكرسي، صنعته أنا و بشمهندس سيد. السيد مهندس معماري ماهر، وحبه للخشب جعله قادر على تفيذ أي شيء يصمّمه أو يأتي على باله، بسهولة جداً. هذا الكرسي هو من صمّمه، وقام بتنفيذه في الورشة – لديه هنا ورشة بها جميع المعدات التي يحتاجها- بعد ذلك يرسل الكرسي لي لتشطيبه أقوم بدهنه أو أصبغ وأحرق وأشد القماش. وهذا بالتفصيل ما تقوم به في كل شيء هنا، أنا و “سيد” نقوم بتصميم وتنفيذ كل قطعة أساس هنا بأيدينا.”

أحب العمل بيدي

وأكملت كلامها: “أنا شخصياً لا أحب الجلوس بدون عمل أبداً، أحب العمل بيدي، لا أعرف كيف يجلس شخص عدة ساعات بدون عمل أي شيء. يبدأ يومي هنا من الساعة الثامنة صباحاً وحتى الحادية عشر ليلاً، أقوم بعمل كل شيء هنا بيدي وأنا سعيدة وأشعر بالراحة، وهذا ينعكس على احساس الضيوف في المكان. يقول أغلب ضيوف الفندق لنا بأنهم يشعرون وكأنهم  في منزل محلي وليسوا في فندق.”

في الحقيقة، لن تشعر في فندق تاليست أنك مجرّد نزيل بفندق. على الرغم من أن المعاملة والخدمات فندقية وفاخرة، لكنني شعرت بأنني ضيفة فى منزل محلي لطيف. الأم موجودة وتشرف على كل شيء بنفسها، والأب يعمل في الورشة المجاورة للفندق، والأبناء يساعدون الأم في رعاية الضيوف. روح وتنسيق كل قطعة من الأثاث تقوم بها نبيلة بيدها. حتى الطبخ، تقوم بطهي الطعام بنفسها بمساعدة العاملين بالفندق.

مهندسة نبيلة صاحبة فندق تاليست سيوة

مهارة السيدة نبيلة في الطبخ

الجميل أنها ليست مجرّد طباخة، بل طباخة ماهرة جداً. وهذا ما عرفته من سائق السيارة التي استأجرتها للتنقل من الفندق لموقف الحافلات في نهاية الرحلة، كما أنَّ لطبخ نبيلة صيتٌ كبير في الواحة، وهناك مَن يقومون بطلب الطعام منها خارج الفندق أو زيارة الفندق خصيصاً لتناول الغداء أو العشاء من يدها.

في وسط حديثي مع السيدة “نبيلة”؛ خطر ببالي أن أسألها عن المكان الذي تود زيارته خارج مصر، قالتلي: “لا يوجد مكان أحلى من مصر، لدينا كل شيء جميل، لكن لا نعرف كيف نقوم باستغلاله جيداً. لدينا في مصر كل ما يتمناه البشر”. ثم أكملت، “لكن إذا كان هناك دولة معينة أحب اكتشفها ستكون اليابان، لكن ليس العاصمة، أحب أن أكتشف اليابان القديمة. وأفريقيا أيضاً، أحب  أن أزور بعض البلاد بها مثل كينيا وجنوب أفريقيا”.

من كلامي مع السيدة “نبيلة”، وأثناء حديثها، كنت أشعر أنني لا أعمل أي شيء في اليوم، كيف تقوم بكل هذه الأعمال بدقة؟ كانت تجربتي الفندقية متميزة هذه المرة، لم أشعر للحظة بعدم الأمان أو التوتر، بل اكتشفت الكثير من الفنون. تخيّل أن كل جدار تمر به داخل الفندق يجب أن تقف أمامه قليلاً لتتأمل الأعمال الفنية والمصنوعات اليدوية المعلقة عليه.

الفن داخل فندق تاليست واحة سيوة

“يسافر الإنسان الحكيم لكي يكتشف نفسه”-جيمس راسل

في رأيي؛ واحة سيوة إحدى أفضل الأماكن التي يمكنها مساعدتك على ذلك. بمجرد وصولي لها فعلاً شعرت إنني اتنقلت لعالم مختلف كلياً، شعرت أنني بحاجة  لتجربة كل شيء، وزيارة كل مكان فيها. وعلى الرغم من أنني كنت أخطط لزيارة عدد محدود من المزارات في سيوة، لكن سحر المكان شجعني لزيارة العديد من الأماكن السياحية واكتشاف المزيد عنها. دخولي عالم نبيلة وعائلتها فصلني أكثر عن الواقع، وكنت بحاجة لهدنة نفسية، وبعدها ابدأ رحلتي داخل سيوة. والتي ستحتاج مني تدوينة أخرى، وربما أكثر  لأريك أهم الأماكن التي استمتعت بزيارتها في سيوة. يكفيك الآن جرعة الحماس والجمال من تاليست سيوة، انتظرني الأسبوع القادم مع المزيد من الحكاوي عن واحة سيوة وأهلها.

شيماء سلطانAuthor posts

Avatar for شيماء سلطان

مدونة سفر مصرية وكاتبة محتوى، مختصة في المحتوى التسويقي Egyptian Travel Blogger | Content Creator

لا تعليق

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *