غالباً ما يُطلق على الأقصر اسم أكبر متحف في الهواء الطلق في العالم، تصلها وفود من السائحين كل يوم، صيفاً وشتاء. زرتها في أكتوبر ٢٠٢٢، حيث كانت المحطة قبل الأخيرة لي في مصر، والتي بدأتها من القاهرة. ثم العيش كرحالة رقمية ماليزية في دهب، وتعلمت فيها الغوص سكوبا. ولكن وصف الأقصر كمتحف مفتوح ليس بهذه البساطة، فلا يمكنني مقارنته بأي مكانٍ آخر في العالم، بحجم وعظمة الآثار المصرية التي نجت في طيبة القديمة. أردت زيارة المدينة القديمة بطريقة غير سياحية، بعيداً عن الزحام والطوابير على المعابد، والتجمعات في المواقع المشهورة للآثار الفرعونية. ولكنني كنت محكومة أيضاً بضيق الوقت، ومحاولة التمتع بالطقس البارد، لزيارة أسوان. فكل ما أردته هو التعرف على صعيد مصر، أو الصعيد، بعد أن سمعت عنها كثيراً في الأفلام والمسلسلات المصرية التي كبرت عليها.
تعدت أسماء هذه المدينة؛ أطلق عليها قدماء المصريين اسم “واسط”، أي مدينة الصولجان، وأسماها الإغريق طيبة، واليوم هي مدينة الأقصر. تقع هذه المدينة الساحرة على طول نهر النيل العظيم، على بُعد حوالي ٥٠٠ كلم جنوب القاهرة. وهي أفضل مكان للتعرف على مصر القديمة، حيث المشي بين الاثار والأنقاض يعود بك إلى أكثر من ٣٠٠٠ سنة.
الأقصر قديماً
كان العصر الذهبي لطيبة -الأقصر قديماً- خلال عصر الدولة المصرية الحديثة (١٥٤٩ – ١٠٦٩ قبل الميلاد)، حيث كانت بمثابة عاصمة للهيمنة المصرية. وجعلت النجاحات العسكرية العظيمة للفراعنة في ذلك الوقت المملكة المصرية ثرية للغاية. فقد امتد نفوذهم جنوباً إلى النوبة، وغرباً على طول البحر الأبيض المتوسط، وشرقاً إلى سوريا الحديثة. وسمح حجم وسكان وثروة هذه المملكة العظيمة للفراعنة بتكليف مشاريع بناء ضخمة وترك إرث غني حتى بعد مماتهم. وهو ما تراه واضحاً هذه الأيام، فقد كان أهم شيء للمصري القديم هو أن يتذكره الآخرون إلى الأبد، فكانت أفضل طريقة لتخليد هؤلاء الفراعنة هي إنشاء آثار شاسعة لأنفسهم.
في المقابل، عبد المصريون القدماء آلهة كثيرة، وكان آمون هو إله طيبة المحلي. ومع صعود طيبة باعتبارها المدينة الأولى في مصر، ارتفعت أهمية آمون أيضاً، وأصبح مرتبطاً بإله الشمس رع. وأصبح “ملك الآلهة” آمون رع، والذي كان أحد أهم الآلهة في الأساطير المصرية. حتى بعد أن بدأت طيبة في التدهور، ظلت العاصمة الدينية حتى العصر اليوناني.
الأقصر حديثاً
يُطلق على الأقصر لقب “أكبر متحف مفتوح في العالم”، وهو صحيح إلى حد كبير. ويعود كل ذلك إلى جهود الفراعنة القدماء، ومحاولاتهم لتخليد أنفسهم. فحينما تكون فيها، ستجد ضفّتي النيل تغطي بقايا المعابد والمجمعات الجنائزية وكأنها تحميها. فيما بُنيت المدينة الحديثة بين هذه الآثار أو جوارها، لتخلق مزيجاً جميلاً ومثيراً للاهتمام، بين القديم والجديد، والذي قد لا تجده إلا في الأقصر. ستتضح لك الرؤية أكثر وأكثر في مناطق معبد الأقصر ومجمع معبد الكرنك. تقع الهندسة المعمارية الحجرية القديمة بجوار البناء الحديث الأنيق، مما يخلق تباينًا جميلًا، وتنتشر في المنطقة المحيطة بالأقصر والضفة المقابلة للنهر عدد لا ينتهي من المعابد والمقابر الأخرى. وسيتوجب عليك تخصيص بضعة أيام لزيارة كل المواقع الأثرية في المنطقة.
تنقسم الأقصر، كمدينة إلى قسمين، الضفة الشرقية لنهر النيل وغربها. كان هذا التقسيم مناسباً لقدماء المصريين أيضاً، فالضفة الشرقية هي أرض الأحياء، حيث تشرق الشمس ويزدهر الناس. فيما كانت الضفة الغربية أرض الموتى، حيث غروب الشمس والمكان الذي ينتقلون إلى الآخرة، ولهذا تجد فيها المقابر والمعابد الجنائزية.
كيف رأيت الأقصر خارج الإطار السياحي
يُقال، سيستغرق الأمر أسابيع لزيارة كل الآثار في الأقصر، أو تجربة كل الأنشطة السياحية فيها. وفي الحقيقة، أحسست بعد زيارة معبدين أنني رأيت كل ما أريد، خاصة وأنني لست متعمقة في الآثار. ناهيك عن كثرة المعلومات وترابطها، والطريقة التي تتلقّى فيها المعلومات من المرشدين السياحيين هنا يُشعرني بالصداع. وإحدى أكثر التجارب الفريدة للسائحين في الأقصر هي ركوب منطاد الهواء الساخن عند شروق الشمس فوق المدينة، وستعرف بنفسك سبب كون الأقصر أكبر متحف خارجي. وهي أيضاً طريقة سهلة للتعرف على الأقصر، وتحديد ما الذي تريد أن تزوره فيها. مع ضوء الصباح المنبثق بين الغيوم، والهواء المنعش، ما يجعلها تجربة ممتعة. ولكنك تعرفني جيداً، لا شيء يجعل الاستيقاظ قبل الشروق مستحقاً، إلا إن كانت رحلة غوص.
وصلت الأقصر في المساء، كانت المدينة هادئة ومظلمة، وكل شيء حالم. في الطريق من المطار إلى الفندق في الضفة الغربية، رأيت احتفالاً، يبدو أنه زواج. تعرف ما الذي أتحدث عنه، التيراز الملون، والأضواء المعلقة على الحبال بين الأعمدة والجدران، وصوت طبول يخترق الهدوء. سألت السائق إن كان هذا حفل زواج، فأخبرني أنها جلسة صوفية. لمعت فكرة في رأسي، هذا أفضل مما توقّعت! وطبعاً، طلبت منه حضور مناسبة شبيهة لهذه، أو حتى حفل زواج. المهم، ألا تكون رحلتي في الأقصر سياحية بحتة، وأن أكون أكثر قرباً من الصعايدة وحياتهم.
الآثار القديمة في مدينة هابو
غادرت غرفتي أسير على غير هدى، فقط للتعرف على المنطقة وما يحيط بي. كنت على مقربة خطوات فقط من معبد رمسيس الثالث التذكاري الرائع لمدينة هابو. هنا، أمام قرية كوم لولا الهادئة، فيما تحيط به وتدعمه جبال طيبة، اخترته بداية لقلة الزحام، وقُربه من مسكني. أريد فقط يوماً هادئاً بدون أي تخطيط، أتعرّف فيها على الأقصر بطريقة غير سياحية تجارية.
كانت مدينة هابو في أوجها تحتوي على معابد وغرف تخزين، وورش عمل، ومباني إدارية وقصر ملكي، وأماكن إقامة للكهنة والمسؤولين. كانت مركز الحياة الاقتصادية لطيبة لعدة قرون. وهي إحدى الأماكن الأولى في طيبة المرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالإله المحلي آمون. وعلى الرغم من أن المجمع يشتهر بالمعبد الجنائزي الذي بناه رمسيس الثالث، إلا أن حتشبسوت وتحتمس الثالث شيدوا بعضاً من المباني هنا أيضاً. تم إضافتهم وتغييرهم لاحقاً، من قبل سلسلة متعاقبة من الحكام حتى البطالمة.
طغى المعبد الجنائزي الضخم لرمسيس الثالث معبد آمون الأصلي، الذي بناه حتشبسوت وتحتمس الثالث، وهو السمة الغالبة لمدينة هابو. لكن كنيسة صغيرة من فترة حتشبسوت لا تزال قائمة على اليمين، بعد اجتيازك للبوابات الخارجية. واستلهم رمسيس الثالث في بناء ضريحه من قبل رمسيس لسلفه اللامع رمسيس الثاني. معبده الخاص والمعبد الأصغر المخصص لآمون كلاهما محاطان بجدران خارجية ضخمة للمجمع. وفي الداخل، على يسار البوابة، مصليات قبر الأحباء الإلهيين، والتي تم بناؤها لكاهنات آمون الرئيسيين. ثم خارج البوابة الشرقية، كان أحد المدخلين فقط رصيفاً لقناة كانت تربط مدينة هابو بالنيل.
إنه مكان رائع للزيارة، خاصة في وقت متأخر من بعد الظهر عندما يخف الضوء ويضيء الحجر الكريمي.
التراتيل الصوفية في الأقصر
أخبرتك في بداية التدوينة عن رغبتي القوية في رؤية الأقصر بشكلها غير السياحي التجاري. وحتى إن كنت غير متدينة أبداً، إلا أنني لازلت أحب تعلّم علاقة الإنسان بالروحانيات، وما يختاره ليخفف عنه عناء الحياة. مصادفة، كانت تجري جلسات وتجمعات دينية خاصة خلال زيارتي، غير سياحية، وخاصة بالأسر أو الحي الذي يسكنون فيه. وإن كنت تعرف الطريقة التي يعيش بها المصريون في الصعيد، فكلّ مَن في المنطقة إما أقارب أو أصدقاء للعائلة. أخبرني العامل في الفندق بوجود إحدى هذه المناسبات لدى عائلته في المساء، ودعاني لها. كانت هذه التجربة هي أكثر ما ميّز رحلتي في، وقضاء ثلاث ساعات مع سكّان المنطقة والجلوس معهم جعل منها تجربة ممتعة.
الشيخ، والذِّكر، والرقصة الصوفية
تُعرف بأنها رقصة مرتبطة بالحركة الدوارة للكواكب والاتصال بالله. ما يفعله الدراويش في هذه الرقصات، هو ربط منعطف تلو الآخر برقصة مذهلة هي الأكثر شعبية في القاهرة، والتي جمعت بين الفولكلور والتصوف. هذه الرقصة من أصل تركي، والمعروفة باسم “التنورة”، إشارة إلى الملابس التي يرتديها الدراويش. ولكن ما رأيته مختلف تماماً عما تراه في العروض الثقافية السياحية، فلم تكن هنا أي تنورة ملونة، ربما مزمار أو ربابة في الخلفية.
على العكس من ذلك، عائلات تتجمّع في المكان، الرجال في المنتصف، بين التيراز، والنساء يشاهدن من باب البيت. المراهقون يحاولون تقليد الكبار، والأطفال منتشين من الحلويات والسكر الذي يوزّعه كبار السن. هناك تراتيل دينية، وذِكر، وصلوات. وبين كل جزء منها تتمايل الأجساد بشكل جميل. كان تجمّعاً ومناسبة دينية جميلة، كل ما حولك مزارع وبيوت. يتحلّق الجميع بأدب، واحترام كامل للحدث، ولمسة روحانية تغطّي المكان. أجساد تتمايل مع النغم، بعيون مغمضة وغارقة في صوت المنشد.
وادي الملوك في الأقصر
كانت الضفة الغربية للأقصر موقعاً للمدافن الملكية منذ حوالي عام ٢١٠٠ عام قبل الميلاد، لكن فراعنة عصر الدولة الحديثة (١٥٥٠ – ١٠٦٩ قبل الميلاد) هم من اختاروا هذا الوادي المعزول، والذي تهيمن عليه قمة جبل القرن. كان يُطلق على وادي الملوك مسمّى المقبرة العظيمة لملايين السنين، ويضم ثلاثة وستين مقبرة ملكية رائعة.
عانت المقابر بشكل كبير من الباحثين عن الكنوز والفيضانات، وفي السنوات الأخيرة، توافد المجموعات السياحية. فقد أثّر ثاني أكسيد الكربون والاحتكاك والرطوبة الناتجة من العرق الذي يتركه كل زائر على النقوش، واستقرار اللوحات التي تم صنعها على الجص والموضوعة على الحجر الجيري. قامت دائرة الآثار بتركيب مزيلات الرطوبة وشاشات زجاجية في المقابر الأكثر تضرراً، وحددوا عدداً للزائرين في المقابر. في المقابل، تتيح التذاكر زيارة ثلاث مقابر فقط، مع مبالغ إضافية لمشاهدة مقابر آي وتوت عنخ آمون وسيتي الأول ورمسيس السادس.
الطريق إلى وادي الملوك بعيد نوعاً ما، جاف ومليء بالغبار والتراب، ناهيك عن الحر حتى في أكتوبر. لم تكن هذه الآثار مثيرة للدهشة لي شخصياً، ربما بسبب الزحام، ومحدودية الوقت الذي يمكنك قضاؤه في الداخل. ناهيك عن الحر الشديد في داخل المقابر، ما يجعل طوابير الانتظار مملة ومزعجة.
الفلوكة في النيل العظيم
أعترف بأنه أكثر نشاط سياحي ممتع بالنسبة لي! حسناً، أي شيء له علاقة بالماء فهو ممتع لي، وهنا مع رحلة غروب ممتعة.
حجزت قارباً في الليلة الأخيرة، ولم أعرف أن القارب خاص إلا حينما وصلت هناك. قضيت ساعتين أتحدث إلى مصطفى وأسأله عن الأقصر، الحياة فيها، والناس. الهواء ممتع هنا بعد الرابعة مساء، ليُبحر القارب الصغير في النيل، متجهاً للجنوب. يتوقّف قليلاً لتستمتع بكوب من الشاي والنعناع، وربما قالب من البسبوسة الشهية، ونسمات النيل تداعب وجهك. تبدأ الشمس بالغروب، وتتلون السماء بالبرتقالي والأحمر، ليعود القارب الصغير إلى الشاطئ، مدفوعاً بالتيار النهري. كانت الرحلة أكثر هدوءاً مما توقّعت، وهو ما احتجته بعد الزحام والحر الشديد عند زيارة وادي الملوك.
في المقابل، تتزاحم سفن الكروز على ضفاف النيل، شكلها مزعج، كبيرة، وصاخبة، وتثير تلوّثاً هوائياً وبيئياً في المكان. وهذا ما يجعلني أبتعد عنها وعني أي نشاط يتعلّق بالكروز في أي بلد. إضافة إلى التأثير السلبي الذي يتركه هذا النوع من السياحة، فالمستفيد الأول هنا هي شركات الكروز العالمية، ويتضرر منها السكان المحليون بشكل كبير. فراكب الكروز يتوقف لساعات فقط في المدينة، لا يسكن فنادقها ولا يأكل من مطاعمها، ولا يتسوّق محلياً. فكل ما يفعله هو المرور هنا، وإثارة الزحام، ثم المغادرة.
تجربة السفر بالقطار في مصر
أحب القطارات، وحتى السفر بأي وسيلة غير الطائرات، لتجعلني أعيش تجربة سفر حقيقية. إنها التجربة الأولى لي على الإطلاق في أي دولة عربية، وهي مختلفة عما كنت أطمح إليه.
فبداية، لم أستطع حجز تذاكر القطار من الموقع، وكان عليّ حجزها من المحطة نفسها. طلبت من العامل في الفندق ترتيب ذلك، بعد أن عرض عليّ المساعدة، وأكّد لي بتوفر الرحلات ما بين الأقصر وأسوان كل ساعة في أي يوم. ويمكنني ببساطة التوجه إلى المحطة وشرائها، فلا كراسي مخصصة، وليست هناك أي خدمات خاصة، حتى للدرجة الأولى. ولا أعرف صحة هذا الكلام.
وقد تعرف، إن كنت من سكان مصر، عن القطار الأسباني والروسي، أو شيء من هذا القبيل. المهم؛ أن أحدهم أفخم من الآخر، وبتكييف، وخدمات أفضل. ولأن لا معلومات وافية هنا، اشتريت تذكرة سفر مخصصة للسائحين، ولم تكن القطارات مسمّاة أو مرقمة بما يطابق التذكرة التي اشتريتها. في نهاية الأمر، طلبوا مني ركوب أحدها، والذي كان “الروسي”، بدون تكييف، الأرض متسخة، والكراسي بعضها متشقق، ورائحة الحمام تطغى على المكان.
ذكّرتني هذه التجربة بسريلانكا كثيراً، إلا أن الفارق بينهما هو نظافة القطارات السريلانكية أكثر من المصرية. وبشكل ما، لم أهتمّ كثيراً حينها، ربما لأنني كنت أتطلع أكثر من أي أمر آخر لمغادرة الأقصر وأجوائها السياحية إلى مكانٍ ما أكثر هدوءاً، ولقاء مجموعات أخرى من الرحالة. لذلك، كانت أسوان، هي محطتي التالية، ومسك الختام لرحلاتي في مصر لذلك العام.
لا تعليق