أهلاً يا عزيزي! إنها الثامنة والثلاثون إذن!
أليس الطقس جميل هذه الأيام؟ على الأقل هنا، حيث أقضي هذا الشهر في سانداكان هرباً من أجواء كوالالمبور الخانقة.
مقدمة غير موفقة؟ اممم. أعلم. يحدث هذا كثيراً حينما لا أعرف ما الذي عليّ قوله في الحقيقة. أعلم أيضاً أنك ستعاتبني لأننا لم نتحدث كثيراً مؤخراً. لن أحاول أبداً في سرد الأعذار كما لو أنها أسباب حقيقية. ولن أتعذّر بأن أقول لك أنني كنت مرهقة ومتعبة على شتى المستويات. لكنني سأعترف برغبتي الحقيقية في الكتابة إليك مراتٍ كثيرة، ولم أفعل. لأنني كنت جبانة في أوقاتٍ كثيرة، ولأن الاكتئاب حينها كان يتلبّسني كرداءٍ ضيق خانقٍ ولم أستطع لمراتٍ تحريك يدي. ولأنني في أيام -كثيرة جداً- أكون كسولة. أو أنني -كالعادة- أنسى كثيراً، ولم تعد ذاكرتي تستوعب الكثير.
أوه! الذاكرة.. هل تعلم أنّ الكثيرين ممن هم في الخمسينات من العمر يتذكّرون غالباً ما حدث في طفولتهم ومراهقتهم بالتفصيل، بينما ينسون ما أخبرتهم به الأمس أو ما حدث قبل أسبوع؟. هل يبدو ذلك الأمر غريباً لك أيضاً؟ أم أنني فقط مَن تعتقِده هكذا. هل مررت بتجربة كهذه؟ أو.. هل تعتقد أنني سأكون في موقف كهذا حين أكون في الخمسين؟ تعلم جيداً أنني أكره فكرة الوصول إلى الخمسين من العمر. تخيفني الفكرة بحد ذاتها فيما الثامنة والثلاثون تلوّح لي.
حين كنت في السابع والثلاثين، و “دانة”.
كنت أخطئ لمراتٍ كثيرة خلال العام الماضي في حساب عمري. أسكت ثوانٍ لأتذكر أننا الآن في العام ٢٠١٨، وأنني وُلِدت في العام ١٩٨١. لم يكن ٢٠١٨ سهلاً أبداً، ولم أفعل في ميلادي السابع والثلاثين أياً من الأمور المجنونة التي اعتدت عليها. كنت في مكانٍ آخر من العالم، بلا هاتف، ولا أي طريقة للتواصل مع الآخرين أو حتى الكتابة. أتذكر جملة دانة: “ماما، لما يجي ٢٨/٨ اتخيلي إني أغني لك هابي بيرذداي بصوتي”. تعلم ما الذي حدث؟ سمعتها تغنّي لي بصوتها الناعم والهادئ كلما أغمَضت عينيّ في جلسة التأمل.
المضحك أنني مازلت أصمت ثوانٍ لأتذكر عمري، وجدت أنني أكرر هذا مراتٍ هذا العام. لا يكمن الأمر في أنني لم أحتفِل بشيء في السابع والثلاثين، كل ما حدث أنه كان أهدأ كثيراً من السنوات قبله، وهنا، الثامنة والثلاثون.
حسناً.. ما الذي حدث في الحقيقة؟. دعني أرى.
لا أعرف إن كان هذا العام قد مرّ بسلام. ولست أعرف إن كنت الآن في سلامٍ مع نفسي، وروحي. لكنني أعرف أن الاكتئاب لم يبرح مكانه، وكأنني أحمِله معي في حقيبتي ذات الأربعين لتراً. هذه الحقيبة التي يمرّ كل ما فيها أسبوعياً تحت اختبار “كيف سيحسّن هذا الشيء من حياتي؟”. ربما أصبح الهوَس أكبر هذه المرة لأنني أصبحت أسأل نفسي هذا السؤال حتى قبل شراء أي شيء آخر يتوجّب عليّ حمله في تلك الحقيبة.
أوه! هل تذكر فيلم Up In The Air الذي شاهدناه أول مرة قبل عشر سنواتٍ، ثم مرات عديدة بعد ذلك؟ حسناً. هل تذكر اللقطة التي يقف فيها “جورج كلوني” ويسأل: “ما هو وزن حياتك؟ تخيّل للحظة أنك تحمل حقيبة على ظهرك… “. ترنّ هذه الكلمات في رأسي كل مرة خرج لي الاكتئاب من الحقيبة، ولوّح لي بيده في وجهي. لا أنكِر أنني أنظر إليه حينها، وقد نتبادل بعضاً من الكلام، أو نجلس سوية. وفي أحيانٍ كثيرة، تتلاقى كتوفنا فيما نستمتع بالمنظر أمامنا. حين ينتهي كل ذلك، أسأله إن كان يريد المغادرة أم يفضّل العودة إلى الحقيبة مرة أخرى.. نعم! أنت على حق، إنه يعود للحقيبة مرة أخرى، بهدوء أحياناً، أو بعد مكالمة باكية أحياناً أكثر.
متضايقة..
ثم حدث أن اختنقت.. هناك الكثير مما يحدث حولي دون سيطرة حقيقية مني. كل شيء أصبح خارج السيطرة. خيط هنا وهناك، كل شيء متشابك. وأنا أحاول تصفيف كل شيء. أردت فقط أن أراها أمامي مفرودة، حتى أتمكن من التعامل مع كلٍ منها على حدىً. ثم تطلّ فكرة “كل الأمور مترابطة”. أرسلت يومها إلى عالية، “أنا متضايقة، ولا أعرف لمَ”. سألتني، “متى كانت آخر جلسة تأمل أو تمريناً للتنفس؟”. حسناً.. كانت منذ مدة طويلة. لن ألوم أحداً. لديّ الوقت الكافي كل يوم لثلاثين دقيقة على الأقل. كنت كسولة فقط.
ما قبل الثامنة والثلاثين
حدث أن أنهيت كل شيء أريد القيام به ذلك العام. حدث أن تحديت نفسي بترك كل ما أملك. ومنذ لك اليوم لا أملك إلا الحقيبة التي أريتك إياها. حدث أن نِمت في خيمة، على جزيرة معزولة، غير مأهولة بالناس، سوايَ أنا و”ساشا” و”ستان” و”مارتين”. حدَث وأن سِرت ساعاتٍ وساعاتٍ في الغابات حتى ما عادت تزعجني الفكرة. ثم أكلت حشرات، بطٍ، ولحم تمساح، وضفادع، وكنغر. حدث وأن ركِبت قوارب تكاد تتحطم من أي موجٍ عال. وحدث أن رأيت أعاصير ورياحاً تتلقّف الأشجار كما لو أنها دمى متحركة. لكنني لازلت أخاف عبور الشارع. ولا يزال جسدي يهتزّ كل مرة أرى فيها فأراً يمرّ من أمامي.
تعلم ما المضحك؟ يهتزّ جسدي كلما سمعت صوتاً ينمّ عن تحرك سريع في الغابة، لأثبت فيما بعد بحثاً عن هذا الكائن الذي تحرّك مصادفة. أثبت أكثر حينما أجدها حيّة أو ثعباناً بألوان وطولٍ مغرٍ للتصوير! أو سحلية خضراء، بالكاد يراها مَن يرافقني حينها.
الشمعة الثامنة والثلاثون
لم تكن هناك شمعة، ولم يكن هناك أي احتفال حتى هذا العام. لم أفعل لأنني مكتئبة أو حدث أي شيء. كل ما هنالك أنني أردت طريقة جديدة للاحتفال بنفسي. وكل ما حدث أنني أردت هذا اليوم لي وحدي، في عزلة أخرى، لكنها أخفّ وطأة من السنة السابقة. لم يكن هناك كعك كبير واحتفالات وصخب. لكن، كنت في مطعمي المفضّل في سانداكان، والذي يقدم ثاني أفضل بيتزا تذوقتها في ماليزيا.. هذا احتفال الحياة الثامنة والثلاثون إذن!.
هنا، في سانداكان، أصبح عندي روتين جديد. أصحو في الثامنة، قبل أن يرنّ المنبه في الثامنة والنصف. ليس لأن جسدي أو ساعتين البيولوجية يريدان ذلك، بل لأن المحلات المنتشرة في الشارع تفتح ذلك الوقت، ومعها تصدح قراءات وتراتيل. ثلاثون دقيقة كسولة ما بين غفواتٍ وقراءة للرسائل التي وصلتني خلال نومي. الإفطار جاهز في الخارج، وعليّ فقط تجهيز الشاي. نعم! ما عدت أشرب القهوة، وقد حلّ الشاي مكانها. هذا ما نتج من تجارب قهوة سيئة في تايلاند ولاوس وكمبوديا.
ثم يمرّ اليوم بطيئاً جداً هنا، أقضيه ما بين التجوّل في المدينة، سوق الفاكهة، مسبح الفندق، الكتابة من الغرفة المطلّة على الميناء، واستكشاف مطعم جديد للعشاء.
يبدو أن الثامنة والثلاثين ستكون هادئة أكثر من اللازم.. وهذا ما أخشاه!
لا تعليق