غادرت الأقصر في رحلة مُرهقة -جرثومياً- بالقطار المصري القديمة، قطعت فيها ٢١٥كم للجنوب. وجهتي اليوم هي أسوان، بحثاً عن تجربة ممتعة في النوبة، ولقاء النوبيين، وزيارة مقابر النبلاء، وتذوّق الطعام الشهي هناك. وكمزحة مضحكة مع بقية الرحالة الذين التقيتهم، إنها المكان المثالي لتوديع الكشري وسندويشات الطعمية المذهلة. وبشكل ما، ظهرت لي أسوان كأفضل مكان في مصر لمغادرتها، بعد أن قضيت فيها شهوراً ما بين القاهرة لاجتماعات العمل، ثم دهب للغوص. تتحلى هذه البقعة الصغيرة من مصر بالعاجي والأبنوسي والوردي والذهبي، الألوان المميزة لأسوان. هنا، خليط بري من الصخور النارية المتلألئة، متناثرة عبر النيل، تخلق مضيقاً بين مرتفعات الصحراء الشرقية والنفايات الرملية في الصحراء. وللكثير من المسافرين في النيل، تعد أسوان مكاناً مريحاً ودافئًا ومناسباً للتوقف فيها بضعة أيام، بما أنها أفضل جزء للزيارة على طول نهر النيل والجزر.
أسوان إحدى أكثر المدن السياحية في مصر ولسبب وجيه. جوها المريح، وموقعها الجميل على النيل، وجزيرة الفِيلة الباردة تجعلها المكان المثالي للتسكع لبضعة أيام. إنها أيضاً أقل إزعاجًا من الأقصر، دون أن يحاول الباعة المتجولون بيع كل شيء لك في الدقيقة.
أرض النوبة الأبانوسية
الأسواق أكثر استرخاءً وأقل إلحاحاً من المدن السياحية الأخرى في مصر، حتى مع السحنة الأفريقية في الهدايا التذكارية المعروضة للبيع. إن أخذ فلوكة حول الجزر، واستنشاق الهواء النقي، والاستماع إلى غناء الأطفال النوبيين هي الطريقة المثالية لمشاهدة غروب الشمس خلف الصحراء على الجانب الآخر. ثم، إلى الجنوب، ستجد بعض الشواطئ حيث يمكن السباحة فيها بأمان.
خلال المملكة القديمة، غامر عدد قليل من المسافرين بأعلى نهر النيل بحثاً عن الذهب والعبيد والأقزام، تاركين سجلات بعثاتهم منقوشة على الصخور بين الجزر. لكن معظم الرحلات الاستكشافية كانت إلى جزيرة الفِيلة، الجزيرة الواقعة في منتصف النهر. كانت يِبو، المدينة الرئيسية للجزيرة، هي المدينة الحدودية للمملكة القديمة. ولأن النيل كان يعتقد أنه ينبع من تحت الجندل الأول، فقد كان أيضاً مركزاً دينياً مهماً. فيما مناخ أسوان الشتوي الممتاز، والأجواء الجميلة معروفة جيداً في العالم الكلاسيكي ووصفها العديد من الكتاب. ذكروا المعابد والحدائق وكروم العنب في جزيرة الفيلة، والتي كان من المفترض أن تنتج العنب على مدار السنة.
أفضل الأوقات لزيارة أسوان
انتظرت فترة طويلة حتى أتمكن من زيارة أسوان في الوقت المناسب، حيث تعد من أكثر الأماكن حرارة وجفافاً، وأشمسها على الإطلاق، لذا من الأفضل تجنب أشهر الصيف. حيث أن أفضل وقت للزيارة بين أكتوبر إلى مايو، بما أن الأنشطة والمزارات غالباً ما تكون خارجية، فإن الشتاء، بدرجة حرارة متوسطة يكون مريحاً. كانت زيارتي في نهاية أكتوبر، وكان الجو لطيفاً في النهار وبارداً في الليل، والذي كان مناسباً جداً بعد الشهور الصيفية التي قضيتها في دهب.
كيف تقضي ستة أيام في أسوان؟
كانت الأقصر مزدحمة، غارقة بالسائحين لأقصاها، ولا تختلف كثيراً في ذلك عن القاهرة. وربما كان هدوء أسوان وتبسّط أهلها، وودّهم أكبر عاملين في حبي لهذه المدينة الصغيرة. نعم، هناك نمط عجيب في سفري، واختياري للوجهات أينما ذهبت، أحب القرى والمدن الصغيرة، وأجد نفسي فيها. وكلما انعزلت عن العالم الحديث، كلما كان ذلك أفضل، وأصبحت أكثر قُرباً لي.
تقع أسوان في الطرف الشمالي من النوبة، موطن الشعب النوبي لما لا يقل عن ٤٥٠٠ سنة، والتي تنقسم الآن بين مصر والسودان. تتناثر القرى النوبية حول أسوان، وتنظّم الشركات السياحية جولات لها، وهو ما يجعل الكثير من القرويين ينظرون إلى السائحين كأجهزة صراف متنقلة. وينتهي الأمر بدون التعرّف على الثقافة النوبية الحقيقية. وهذا ما كنت أبحث عنه، المشي بلا هدى، والتعرّف على النوبيين والحديث معهم. وهذا ما جعلني أبحث عن القرى القليلة التي لا تزورها الشركات السياحية، حيث أفادني “غاندي” هنا.
اليوم الأول: الغروب المثالي في أسوان
وصلت محطة القطار في أسوان، وبدأت عملية البحث عن سائق تاكسي غير استغلالي. وجدت عم محسن، والذي كان صبوراً للغاية، وحاول البحث بين المتاهات عن هوستيل Go Inn Backpackers، المسكن المشترك الذي استأجرته. سمعت عن “غاندي” كثيراً قبل الوصول إلى هنا، وكان أحد أسباب اختياري للمسكن، وستفعل الأمر ذاته إن عرفته أيضاً! اخترت غرفة مريحة في الدور الثاني، بإطلالة بديعة على النيل، وبلكونة يمكنني الوقوف فيها لساعات دون كلل.
بعد ساعة من الراحة، ذهبت إلى فندق سوفيتيل ليجيند أولد كاتاراكت، بتوصية من بعض الأصدقاء الذين زاروا أسوان قبلي. حلت الفنادق الحديثة محل السيدات العجائز في الماضي في أسوان، وأصبحت المنطقة سياحية أكثر من قبل.
بُني الفندق للمسافرين الأوروبيين عام ١٨٩٩، من قِبل رائد أعمال السفر توماس كوك، الذي قام أيضاً برحلات الشركة الرائدة في نهر النيل. كان الفندق مشهوراً للغاية، بحيث تم إيواء الضيوف الفائضين في الخيام حتى تضاعف عدد الغرف عام ١٩٠٠. كان من الضيوف الأوائل اللامعين دوق كونوت، القيصر نيكولاس الثاني، الآغا خان، تشرشل، هوارد كارتر، وبالطبع أجاثا كريستي، التي وضعت أجزاء من روايتها الموت على النيل في الفندق (تم تصوير فيلم عام ١٩٧٨ هناك). لا يزال تناول مشروب على الشرفة عند غروب الشمس، أو شاي بعد الظهر، أمراً ضرورياً، فالمناظر المطلة على الجزر المطلة على النيل لا مثيل لها.
اليوم الثاني: تسكّع في هذه المدينة الهادئة
سوق أسوان الموازي لنهر النيل، يمتدّ بطوله، ولا يزال يحتفظ بلمحة من إفريقيا. تبيع المحلات الصغيرة القطن، الكركديه، السلال النوبية، التمر، قصب الأبنوس والقبعات الكروشيه. فضّلت زيارة السوق في الصباح، حيث الشمس لاتزال هادئة، والهواء منعشاً. سترى هنا النوبيين يتحدثون بصوت خافت، بينما يقضون وقتهم أمام المقاهي، والنساء يحملن إلى بيوتهن ما اشترونه اليوم من السوق، مرتديات فساتينهن السوداء التقليدية الرفيعة التي تتدلى من الخلف.
انتقلت بعدها إلى المقابر الفاطمية الجميلة، وأعلم، شيء غريب أن يُقال هذا عن مقابر. وكالعديد من المدن المصرية، ستجد في أسوان العديد من المدافن من عصور مختلفة من التاريخ المصري. بين المتحف النوبي والمسلة غير المكتملة، على سبيل المثال، توجد مقبرة واسعة، تُعرف باسم المقبرة الفاطمية. ستراها مقببة بشكل أخاذ، يعود تاريخها إلى ما بين القرن السابع وحتى الثاني عشر الميلادي. أقدمها يحمل اسم المتوفى الذي دفن عام ٦٨٦، بعد فترة وجيزة من الفتح العربي لمصر. بينما يحمل الأخير اسم شخص دفن في نهاية القرن الثاني عشر، قبل سنوات قليلة من سقوط الخلافة الفاطمية.
وعلى الجانب الآخر من المقبرة، ستجد أحد المحاجر العديدة في أسوان. حيث لا يزال من الممكن رؤية المسلة غير المكتملة، والتي تم العثور عليها كما كانت، شبه منحوتة من الأساس الصلب. كانت المسلة التي يبلغ طولها ٤٢ متراً أثقل قطعة حجر في مصر القديمة، لو لم يكتشف العمال صدعاً أثناء قطعه من الصخر. لم يكن للحجر أي قيمة يمكن إعادة استخدامها لعمال الأحجار في ذلك الوقت، وقد تم التخلي عنه تماماً، ربما في عهد الملكة هابشبسوت والأسرة الثامنة عشرة.
اليوم الثالث: مصافحة نبلاء أسوان
سألت “غاندي” عما يمكنني عمله في أسوان بعيداً عن جموع السائحين في وسط المدينة والأسواق، وأقرب للصحراء والماء. فأخبرني عن فكرة تسلق المنحدرات لمشاهدة مقابر النبلاء. تدور الفكرة عن اتخاذ النبلاء وغيرهم من كبار الشخصيات أعلى الجبل في جزيرة الفِيلة مقابر لهم. تقع على الضفة الغربية لنهر النيل في بقعة تسمى قبة الهوى باللغة العربية، أو “قبة الرياح”، والتي يمكن رؤيتها بوضوح من الكورنيش على الضفة الشرقية. تصور مقابر النبلاء في المملكتين القديمة والوسطى مشاهد مثيرة للاهتمام من الحياة اليومية، كما أن المناظر المطلة على أسوان والنيل وحدها تستحق الصعود الحاد.
غادرت الهوستيل في الصباح، مشياً حتى الميناء في الضفة الشرقية، وركبت منها “المعدّية” حتى الضفة الغربية. من هناك، مشيت قليلاً أتحدث مع النوبيين، قبل شراء التذاكر. وبدأنا الصعود مباشرة. كان الهواء عليلاً هنا، مع أن شمس أكتوبر بدأت تلفح وجهي. لم يكن هنا أي من السائحين المزعجين من رحلات الكروز، وهذا ما جعل المشي هنا أكثر متعة.
أطلال دير الأنبا سمعان
تقع أنقاض دير الأنبا سمعان في كثبان رملية عالية على التل المقابل لجزيرة الفِيلة. تم بناء هذا الدير الذي يعود إلى القرن السابع على مستويين من الطوب اللبن، وقد تم تكريسه لأول مرة للقديس المحلي الأنبا هيدرا. ثم أعيد بناؤه في القرن العاشر وأعيد تكريسه للقديس سمعان.
كان الدير يتسع لنحو ثلاثمائة راهب، استخدموه كقاعدة للغزوات على النوبة على أمل تحويل النوبيين إلى المسيحية. ومن حيث تتوقف الفلوكة والقوارب على الضفة الغربية، فإن الطريق المؤدي إلى الدير على بُعد نصف ساعة مشياً، على منحدر. وإن كنت لا تحب هذا النوع من المشي، فيمكنك ركوب الجمال، والذين ستجدهم على ضفة النهر. وبشكل ما، قد يكون هذا ممتعاً للغاية بينما لتستمتع بالمناظر الرائعة، حيث الكثبان الرملية الصحراوية، والعودة إلى النهر.
ألقِ نظرة على ضريح الآغا خان
آغا خان الثالث، السيد سلطان محمد شاه، جد كريم آغا خان والقائد المميز للطائفة الإسماعيلية الإسلامية لسنوات عديدة. أحَبّ أسوان لهدوءها الذي يغسل الروح، وكان ضريحه المقبب مرتفعاً على المنحدرات، يطل على النهر. دفن في ضريح الآغا خان عام ١٩٥٧، والمبنى المصنوع من الحجر الجيري باللون الوردي. أحد أقارب أسلافه، الفاطميين، الذين تقع أضرحة أتباعهم على الضفة الشرقية. ثم دُفنت عام ٢٠٠٠ هنا أيضاً زوجته بيجوم أم حبيبة آغا خان.
تتذكرها طقوسها اليومية المتمثلة في وضع وردة حمراء على قبر زوجها أثناء وجودها في مصر، وعندما تكون بعيدة، يقوم البستاني بتنفيذ الطقوس. المقبرة نفسها مغلقة للجمهور ولكن الموقع يتمتع بإطلالات رائعة على أسوان، ويمكن رؤية الفيلا البيضاء للزوجين أسفل القبر مباشرة.
اليوم الرابع: أبحر في النيل
ركوب الفلوكة التقليدية في رحلة إلى النيل أحد أفضل الأنشطة في أسوان، تشق هذه المراكب الشراعية طريقها عبر الماء بسهولة. ستراها في كل مكان، وسيناديك البائعون على الميناء إن كنت تبحث عن رحلة بالقارب.
قررت مع عدد من الرحالة الآخرين أن نقضي ساعات من المساء في نهر النيل، وأن تكون رحلتنا مختلفة. فعادة ما تستغرق رحلة الفلوكة حوالي ساعة أو ساعتين، وسوف تدور حول كل جزيرة على النيل قبل إعادتك إلى الضفة الشرقية لأسوان. ما يجعل الأمر مثيراً للاهتمام هو حقيقة أنهم يسخرون طاقة الرياح للتنقل في نهر النيل وقد أتقنوا التقنية لعدة قرون، ويمكنك أن ترى كيف يفعلون ذلك بعينيك.
تكمن مشكلة العثور على رحلة بالفلوكة في أسوان في الحقيقة أنك قد تتعرّض للخداع، وأحياناً ما يكون السماسرة عدائيين، حتى تحدثت معهم بالعربية. ركبنا حينها كمجموعة، وطلبنا جولة مختلفة نوعاً ما عن المعتاد. كانت الفلوكة تتناقل بين الجزر، ومعنا نوبي يحكي عن النوبة وناسها، وقراها وعادتهم. ثم منظر الغروب على نهار النيل بشكل لا يمكنك تخيّله، بعيداً عن الإزعاج في أسوان. انتهى اليوم بعشاء شهي في مطعم نوبي، وبشكل ما يدعى “جامايكا”!
اليوم الخامس: تجوّل في القرية النوبية خارج الشكل السياحي
زرت قريتي ناجل جلاب ونجع الحمدلاب والمزارع النوبية المجاورة، تقع جميعها على امتداد ٥ كلم على الطريق من مقابر النبلاء إلى جسر مدينة أسوان الجديدة. ولأنك تبحث عن التجربة الحقيقية، فلا تتوقع العروض الثقافية التقليدية للسائحين! فهذه قرى حقيقية، يعيش بها أناس حقيقيون يمارسون حياتهم اليومية، وهذا بالضبط ما جئت من أجله. على الرغم من ذلك، لا تزال فيها الزينة النوبية التقليدية ظاهرة، حيث زُيّنت العديد من المنازل على الطراز النوبي التقليدي. وعادة ما يلوح القرويون بالترحيب خاصة حينما أحيّيهم، أو يمرون دون الالتفات إلى آسيوية عجيبة الشكل.
في جزء من الطريق، ستجد مقهى أبو الهوى. وهو بيت شاي صغير. على الأرجح، سترى مجموعات من الرجال النوبيين يجلسون في الحديقة، ويلعبون الطاولة. تبادلت بعض الحديث مع النوازل، والذين -كالعادة- يتعجبون من إجادتي للعربية، وهو مكان رائع للتوقف في الطريق لتناول فنجان من الشاي المصري. جُعت خلال مشيي في القرية، وطلبت من الجوار طعاماً محلياً شهياً للغاية، أعتقد أنه أشهى غداء تناولته في أسوان.
حينما تُكمل السير، ستصل إلى منطقة من الأراضي الزراعية الخصبة على الجانب الأيمن من الطريق. اشتهرت مياه النيل بجعل المنطقة المحيطة بها خصبة، ورأيت أكبر أنواع الملفوف التي رأيتها في حياتنا. من المثير للاهتمام التجول في المسارات الصغيرة بين الحقول ومشاهدة المحاصيل المختلفة المزروعة، وبعضها لم أره في حياتي أبداً. ولا يزال النوبيون يستخدمون العديد من طرق الزراعة التقليدية، والتي أصبحت منذ فترة طويلة آلية في ماليزيا أو آسيا. والعجيب، أنني رأيت أخيراً عجلة مائية يحركها ثور والتي كانت تقود نظام الري التقليدي.
اليوم السادس: توديع أسوان الوادعة ومصر
رحلتي المغادرة إلى القاهرة مجدولة مساء، والذي يعني أن لديّ النهار بأكمله أقضيه في أسوان. خرجت اليوم أمشي مرة أخرى بدون هدى، وبحثاً عن مكان يمكنني الجلوس فيه للاسترخاء والقراءة. تذكرت مطعم “مكاني”، الذي مررت به كثيراً، ولم يكن لديّ وقت للجلوس هنا. قضيت بضعة ساعات، بينما الهواء العليل من نهر النيل يخفف حرّ الشمس.
رحلتي التالية بعد أسوان إلى القاهرة، ثم إلى أديس أبابا، وجهة لا أعرفها تماماً. وقبل أن يحين موعد الرحلة، ذهبت لأشتري مجموعة من المسكنات والأدوية، وحتى الوجبات الخفيفة التي قد لا أتمكن من إيجادها في إثيوبيا.
لا تعليق