لم أكن أخطط للعودة إلى القاهرة منذ غادرتها في ٢٠١٩، إلا أن متطلبات العمل جعلتني أزورها بين الفينة والأخرى. كررت زيارتها بعض المرات لأيام معدودة، منها حضور اجتماعات أو زيارات ميدانية خلال السنوات السابقة. وعلى الرغم من تكرار الزيارة –كمسافرة منفردة– لم أعلم أنني سأتحدث عنها يوماً، كوجهة للرحالة الرقميين في شمال أفريقيا. ولكن، ها نحن هنا! اخترت الانتقال إلى دهب والتجول في المدن المصرية بعد ذلك لعدة أسباب، على الرغم من استغراب الكثيرين من أصدقائي على تويتر مثلاً. وحتى مَن يعرفونني عن قرب، كانوا يكررون السؤال، بما أنهم لم يعرفوا أسلوب عملي مثلاً. وهو ما دفعني إلى كتابة هذه التدوينة، بشكل ما.
إضافة إلى أنها كانت الملاذ المناسب للاستراحة قليلاً في شمال أفريقيا، بعد رحلات مرهقة في الجزائر وتونس. فمع وجود فاطمة في القاهرة، أصبحت لديّ عائلة كبيرة هناك. وهو ما ساعدني على التعرف عن كثب على الثقافة المصرية، والتي تبدو من بعيد معقدة للغاية، ولكنها في الحقيقة مثيرة للاهتمام. هناك نوع من الدفء والترابط تجده في أسوان، ولن تجده في أي مكان آخر. وسيغمرك الكرم والثقافة في الأقصر، والرغبة الحقيقية في تعريفك بعاداتهم.
رحالة رقمية في مصر
تعاني مصر منذ سنوات من أزمة ارتفاع أسعار الصرف، وهو ما يجعل الجنيه المصري منخفض القيمة. وبما أن أغلب الرحالة الرقميين يكسبون دخلهم بالدولار أو اليورو، فإنهم يتمتعون بقوة شرائية هائلة. فإذا قارنت الأسعار بعد صرف العملة، فستجد أن تكلفة المعيشة في مصر مقارنة بالدول المجاورة أو العديد من الدول الأفريقية لا يزال أقل بكثير. وبشكل ما، تمثّل هذه نقطة إيجابية لغير السكان المحليين.
إضافة إلى أن البلاد بموقعها في شمال أفريقيا غنية بالموارد الأخرى وهناك الكثير لتتعلمه وتجرّبه، بعيداً عن الأهرامات والمعابد. فمن جهة، يمكنك استكشاف البلاد كجزء من المغامرات على ضفاف النيل، لتتوقف بين الفينة والأخرى في القرى المصرية الصغيرة. أو ممارسة الغوص في البحر الأحمر، بينما تحمي صحراء سيناء ظهرك. وحتى السياحة الدينية! هناك الكثير من المساجد والكنائس والشعائر المرتبطة بها، والتي سمعت وقرأت عنها خلال سنوات الدراسة، ولكنني رأيتها لاحقاً بعيني في الأقصر.
وإن جمعتنا معرفة شخصية، فستدرك أنني أقدّر الطعام كثيراً، سواء كان تجربة الغريب والجديد منه، أو التلذذ بالأطباق الماليزية. وبما أنّ القاهرة والاسكندرية، ومدن مصرية أخرى تضم أعداداً كبيرة من الطلاب الماليزيين والآسيويين، فلابدّ لي من التوقف هنا. فتناول الكثير من اللحم الأحمر في الجزائر وأطباق التونة في تونس لا يغنيا أبداً عن الأطباق الماليزية. والمضحك، أن معدتي -على الرغم من سنوات الترحال- مازالت تشتاق إلى لذعة الفلفل والبهارات.
رحالة رقمية في القاهرة
باعتبار القاهرة عاصمة مصر، فهي أكثرها سكاناً، وأكثرها ازدحاماً. وسأترك لك مهمة البحث عن تعداد السكان في محافظة القاهرة، والمدن الرئيسية والبلدات الفرعية فيها. وفي الحقيقة، لا يمكنك زيارة مصر دون قضاء بضعة أيام على الأقل هنا، خاصة إن كانت هذه زيارتك الأولى للبلاد. وبشكل ما، تمثّل المكان الذي تستطيع من خلاله التعرف على الثقافة المصرية بدون أي حواجز. فقط امشِ في شوارعها وأزقّتها، ولاحظ كيف يتعامل المصريون مع بعضهم البعض، في أوقات مختلفة من اليوم.
إنها جوهر مصر، وكأي عاصمة في العالم، يؤمها كل سكان البلاد لأي هدف. مشكلة القاهرة -في نظري- أنها متمركزة حول المباني التاريخية القديمة، والتي شيّدت شكلها الحالي. فسترى حولك الحضارة المصرية القديمة، والإمبراطورية الرومانية، القاهرة الإسلامية، والإمبراطورية العثمانية، ثم القاهرة الحديثة. كلها متجاورة ببعضها البعض، إن لم تكن منصهرة ومتداخلة. بسبب هذا، ستجد فيها الكثير من الأنشطة التي تملؤ جدولك الاجتماعي والثقافي، وحتى الرياضي. ستجد بها أماكن كثيرة للاستراحة، والتسوق، والمطاعم والمقاهي وحتى الحياة الليلة. وكما يحب أن يتغنّى أهلها بها: إنها المدينة التي لا تنام أبداً!
هناك الكثير من المغتربين الذين يعيشون في القاهرة، وهو ما يسهّل عليك لقاء والتواصل مع المقيمين الآخرين. وفي الحقيقة، لم أبحث عن أي من الماليزيين هناك، فكل ما أريده هو التلذذ بالطعام الماليزي -وإن لم يكن بجودة ممتازة- عوضاً عن لقاء الماليزيين نفسه.
تكلفة المعيشة للرحالة الرقميين
حسناً، لم أعش فيها للمدة التي تمكّنني من الإدلاء بالحقائق، وحتى إن عشت فيها سنتين، لا يزال الأمر مختلفاً. جمعت خلال إقامتي في القاهرة بين كوني سائحة، وكوني رحالة رقمية في شمال أفريقيا. فحينما أزورها في رحلات قصيرة لا تتعدّ ٥ أيام، فإنني أقيم في فندق مطلّ على النيل طبعاً. وحينما أقمت فيها أسبوعين، سكنت فيها شققاً من AirBnb، ما بين القاهرة الجديدة وعابدين. وكما يردد لك الكثيرون، فالمعيشة في القاهرة لا تزال منخفضة التكلفة لغير المحليين.
فكما ذكرت سابقاً، من السهل أن تعيش في القاهرة -أو مصر بشكل عام- إن كان دخلك بغير الجنيه المصري. وأصبح الأمر في متناول اليد أكثر وأكثر مع انخفاض قيمته مقابل الدولار في السنتين الأخيرتين. وهو في الحقيقة ما سبب لي صدمة كبيرة حين عرفت تكلفة المعيشة في كينيا أو تنزانيا مثلاً، على الرغم من كونهما أقل من مصر في البنية التحتية. وبشكل عام؛ تختلف تكلفة المعيشة في مصر أو أي بلد، وفقاً لأسلوب حياتك ومستوى دخلك، ولكنها عموماً تناسب مختلف الطبقات.
الجزء المرهق هنا –وبقية شمال أفريقيا– أن البضائع المستوردة باهظة الثمن في مصر. ينطبق هذا على الكثير من البضائع، خاصة فيما يتعلق بالإلكترونيات والأدوات المنزلية أو الملابس. فقد يعتبر استهلاك منتج -أو حتى شوكولا معينة- أمراً حتمياً وعادياً في بلدك، فقد يكون أغلى هنا. وعليك ملاحظة إضافة ضريبة القيمة المضافة ورسوم الخدمة في أي مكان.
الأحياء التي أقمت بها
تعد القاهرة مدينة كبيرة ومتفرعة للغاية، وستختلف البنية التحتية ومستوى المعيشة من حيّ لآخر. وبشكل ما؛ يقع العديد من الأجانب أو المنتقلين إلى القاهرة في خطأ الإقامة بوسطها، عوضاً عن أطرافها مثلاً. وذلك بسبب زياراتهم الأولى للقاهرة، والتي غالباً ما كانت في التحرير أو عابدين، أو في أحياء لا يشعرون فيها بالضرورة بالراحة.
مصر الجديدة
قضيت فيها أياماً متفرقة هنا وهناك خلال زياراتي المتكررة، وآخرها في ٢٠٢٢. وأسكن دائماً في إحدى شقق Travelholic Residence New Cairo، في حي عائلي هادئ. والتي تكلفني عادة ١١٠ دولاراً لثلاثة ليالي.
الجيد في مصر الجديدة أو التجمع الخامس بشكل خاص هو قلة الزحام فيها. إضافة إلى كثرة الأسواق التجارية والمطاعم، وحتى الفنادق حول المنطقة التي أسكن فيها. فعن طريق أوبر مثلاً، يمكنني قضاء بعض الوقت في مقاهي كايرو فيستيفال سيتي، وتناول الطعام فيما بعد أو حتى مجرد المشي في المنطقة. ما يعيبها أنها بعيدة بعض الشيء عن المراكز المهمة في القاهرة، والوصول إلى وسط القاهرة يستغرق نصف ساعة على الأقل.
عابدين
ليس بأفضل حي للسكن، ولكنه قريب جداً من كل شيء، وفيه كل شيء! في الزيارات بجدول اجتماعات ممتلئ، أو ألتقي أصدقائي يومياً، أسكن فيها عابدين. حسناً، الحي مزدحم، ولا يمكنك إيقاف سيارتك في الشارع الرئيسي، وأصوات زمامير السيارات لا تتوقف طيلة اليوم. ولكن، كنت مُحاطة بأكثر من ٣ مقاهي في شارع واحد، وأكثر من عشرين مطعماً، وفنادق من كل جانب. والذي يعني ببساطة، سهولة المشي من وإلى كل شيء. حتى أنني وجدت عدداً من المكاتب المشتركة، والمقاهي التي يمكنك العمل منها.
المعادي
أكثر الأحياء المفضلة لدي، وعدد كبير من المسافرات في القاهرة. الحي أكثر هدوءاً، مقارنة بعابدين طبعاً، وبه العديد من المطاعم والمقاهي المحلية والعالمية بجودة أفضل من مناطق أخرى. حتى المشي هنا أسهل وأقل إرهاقاً للأعصاب. اخترت فيه شقة من AirBnb، وسكنت بها آخر أسبوعين قضيتهما في القاهرة. والجميل، أن بها المطعم الصيني المفضل لدي أيضاً!
هل القاهرة آمنة للرحالة الرقميين؟
السؤال الأكثر تكراراً لدى الرحالة الرقميين، لاسيما المسافرات المنفردات في الدول العربية أو حتى شمال أفريقيا. وباعتباري مسافرة منفردة، يمكنني بالتأكيد فهم مخاوفك. وفي الحقيقة، لا يتعلّق الأمر وحده القاهرة أو مصر، فهذا السؤال يتكرر عن ماليزيا وكوالالمبور أيضاً.
أكثر ما تهتم به النساء عادة هو التحرش، وعانيت منه بشكل طفيف، في القاهرة، وإثيوبيا وتنزانيا وقبلها في الجزائر وتونس أيضاً. وعرفت مع تركم الخبرات التعامل مع كل موقف على حدة، وبشكل مختلف. وإن أردت تحليل المواقف والمصطلحات بشكل موسّع، فهناك فارق كبير بين مصطلح “المضايقات”، وبين التحرش الجنسي أو التهجم وأنواع المضايقات الأخرى مثل المساومة من قبل البائعين في الأماكن السياحية. ولسوء الحظ، كل ما ذكرناه موجود هنا، مثل أي مدينة أو بلد سياحي آخر. وكل ما يمكنني عمله هو أن تكوني على أهبة الاستعداد، فليس هناك أي حل آخر، في بيئة لا يزال الرجال فيها يرون المضايقات أمراً عادياً.
أنت في بلد محافظ
مهما كانت نظرتك عن مصر وأنواع الترفيه فيها، فلا تزال بلاداً عربية. فهل تعلمين أن ماهو مقبول ارتداءه في مصر يعتمد على مكان وجودك؟ كأي مكان آخر في العالم، سواء كنت رجلاً أو أنثى. والعجيب أن البعض لا يعرف ذلك، إلا حينما يسافرون ببطء في بلاد ما. فبعيداً عن الخطط السياحية المتعارف عليها في مصر، ابحث عن الأحياء المناسبة قبل قرار الاقامة فيها. فمثلاً، لا تقِم بالقرب من الأهرامات في القاهرة، أو المناطق السياحية على كل حال.
هناك أحياء في وسط القاهرة مثلاً لا يُنصح فيها ارتداء التنانير أو الفساتين القصيرة، أو إظهار الكثير من الوشم. وإن فعلت، فغالباً ما ستكون ملفتاً للنظر، وستكون حتماً عرضة للتحرش. كانت الطريقة الأسلم لي حينها هي ركوب أوبر، والمشي أو التسوق في مناطق مثل الشيخ زايد أو أكتوبر.
سافر مع المجموعات إن كنت خائفاً
سواء كنت معتاداً على السفر أو مازلت تبدأه، فيمكنك الانضمام إلى مجموعات السفر. تنشر الكثير من الشركات السياحية رحلاتها عبر النيل أو البحر الاحمر، خاصة على المواقع الاجتماعية. وإن كنت بدأت رحلاتك في مصر منفرداً، يمكنك الانضمام إلى الرحالة الذين تلتقيهم المساكن المشتركة والهوستيل. حتى أنا التي اعتدت على السفر المنفرد، انضممت إلى مجموعة التقيتها في أسوان وقضينا وقتاً ممتعاً، بدلاً من قضاء وقتي وحدي دائماً. وفي الحقيقة، مشيت ليالي كثيرة في القاهرة دون أن أتعرّض للسرقة أو الأذى. نعم، هناك أحياء لم أدخلها، ولكنني لم أسر في الشوارع يوماً أتحسس حقيبتي، كما فعلت في أديس أبابا. ولا تفاديت منطقة بأكملها أو استعنت بالمحليين فيها كما فعلت في جوهانسبرغ.
ما لم أحبه في القاهرة
إنها مزدحمة للغاية، الأصوات فيها عالية، فوضوية، بعض مبانيها متداعية، وهواؤها ملوّث. هذه النظرة التي أعرفها ولا تزال عليها القاهرة، وكل تلك النقاط الخمس جزء من هويتها.
حركة المرور فيها جنونية للغاية، والسير في شوارعها غير مريح أبداً، خاصة في عابدين أو التحرير. ولهذا أجهّز نفسي ذهنياً، كلما عرفت أن عليّ المشي في تلك المنطقة. إضافة إلى الإشارات المرور الفوضوية، والكثير من المارة الذين غالباً ما لا يلقون اهتماماً للإشارات. وبطبيعة الحال، سائقي السيارات الذين يحاولون بشكل ما أن يكونوا متعددي المهام، ما بين القيادة نفسها، والحديث في الهاتف، وتوزيع الشتائم، ودقّ منبه السيارة. وهذا ما يجعل أيضاً فكرة الانتقال خلال اليوم راكبة في أوبر أمراً مرهقاً ذهنياً.
الطقس الجاف والحرارة في شمال أفريقيا، أو شدة البرودة في الشتاء أمر لا مفر منه. وإن كنت في المدن الساحلية، يمكنك السباحة أو الغطس في البحر في أي وقت. ولكنك حينما تكون في القاهرة فأنت عالق في الهواء الحار الملوث. وحتى مع تعدد زياراتي لها أقع فريسة المرض، حيث تلتهب جيوبي الأنفية من الغبار، وتصبح بشرتي شديدة الجفاف.
هل القاهرة مناسبة للرحالة الرقميين؟
مقارنة بعدد من دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، لا تزال القاهرة أو مصر تعد بالكثير. وإن أردت أن تقارنها بدبي أو جدة أو تونس، ومراكش، فأمامها الكثير. ولكن انخفاض تكلفة المعيشة فيها يجعلها تسبق بقية المدن في المنطقة. ولن أقارنها طبعاً ببانكوك حيث انخفاض تكلفة المعيشة أحد أكثر الجوانب جاذبية في تايلاند. ومن الممكن أن تعيش في المدينة بميزانية محدودة، والتمتع بوسائل الترفيه بمستوى عالمي. وبشكل عام، لا تزال المعيشة بها في متناول اليد مقارنة بمدن أوروبية أو الشرق أوسطية.
وبصفتي رحالة رقمية، أعمل عن بعد بالكامل، فإن إحدى أهم الأمور التي تعلمتها عن نفسي، هو أن الوجهات الشهيرة للرحالة الرقميين لا تقدم نوعية الحياة التي أبحث عنها. فلا أشعر فيها أنني جزء من المكان، لست سائحة أو مقيمة، وليست طبعاً موطناً لي! وأعتبر نفسي محظوظة جداً لأنني أقمت أسبوعين في مدينة بوخارا النيبالية، واكتشفتها على مهل. وأعلم تماماً أن هذه المدينة الصغيرة جداً لن تكون في قائمة أفضل وجهات الرحالة الرقميين، على موقع NomadList. وهذا بالضبط ما أحتاجه للشعور بمساحتي الخاصة، والأهم، التعرف على المكان بهدوء ورويّة.
لا تعليق