قررت قضاء فترة طويلة هذه المرة في ألمانيا والاستمتاع بأرياف أوروبا بعد ستة أشهر من التنقل في جنوب شرق آسيا. لم يكن هذا الأمر ضمن ترتيباتي الأساسية حين قررت ترك كوالالمبور، لكنني لم أكن كذلك معارضة لهذه التغيرات. اخترت بلدة موسبورغ (Moosburg)، والتي تبعد حوالي ساعة عن ميونخ، في مقاطة بفاريا الألمانية. خلف البيت غابة واسعة، ومزارع للفاكهة والخضار الموسمية.
امتدت فترة إقامتي هناك من آواخر فبراير، وحتى آخر شهر مايو ٢٠١٩. والذي يعني ببساطة نهاية فصل الشتاء وبداية فصل الربيع. لا أعرف إن كانت تلك الفترة مثالية لزيارة ألمانيا بشكل عام، لكنها كانت الفترة الأفضل لي للإقامة في بيتنا هناك، بدلاً من الزيارات القصيرة، وقضاء وقتٍ كافٍ للعائلة، غير منشغلين بشكل كبير بزيارة الأماكن السياحية.
الروتين اليومي في شتاء أوروبا
بيتنا مقسّم بحيث تكون غرفة النوم في العلّية. هذا الأمر ببساطة يعني شُبّاكين في السقف يمكنني منهما رؤية النجوم، وإطلالة على الغابة خلف البيت. ولأن واجهة بيتنا شرقية، كنت كل صباح أستمتع بشروق الشمس، وأشعتها التي تذرُع البيت بخفّة.. يبدأ اليوم كسولاً، مابين الثامنة والثامنة والنصف، رائحة قهوة مارتين تغمر المكان، فيما يعدّ الشاي لي. في جزء آخر من المطبخ أعد إفطاراً خفيفاً لا يتغير إلا قليلاً، فنحن الاثنين لسنا مُتطلّبين أبداً. في الأوقات التي أستيقظ فيها مبكراً، أعد فطائر أو بعضاً من البانكيك. لكننا، كأي بيت ألماني لا يتعدى إفطارنا عن خبز ممزوج بالحبوب، زبدة، مربى، أفوكادو، بيض، وجبن خالٍ من اللاكتوز. نعم! أصبحت مؤخراً غير قادرة على شرب الحليب أو تناول المنتجات المصنوعة منه.
تمضي ساعة في تناول الإفطار، ومشاهدة الأخبار وتتبع أحوال الطقس. ولأنني أعمل عن بُعد، كان من السهل عليّ التركيز على أعمال البيت والعمل معاً. لم يكن الأمر بهذه السهولة في الأيام الأولى، لكنني بدأت روتيناً سهّل عليّ حياتي كثيراً. أعمل منذ التاسعة والنصف وحتى الواحدة والنصف ظهراً. ثم أذهب للجري في الغابة الخلفية. غداؤنا خفيف جداً، وفي أحيانٍ كثيرة لا يتعدى كوباً من اللبن الزبادي مخلوطاً ببعض الحبوب والشوفان. أقوم بعدها ببعض أعمال البيت الخفيفة، تنظيف وترتيب، ليس هنالك ما يستدعي تخصيص يومٍ كامل للتنظيف بما أننا شخصين فقط في البيت، و”مارتين”، هو الآخر، ينظّف كلما استدعى الأمر.
تجربة الشتاء في ألمانيا
حين يأتي ذِكر أوروبا كوجهة سفر، غالباً ما تُرسم في ذهني فكرة الإجازات الشتائية الباردة. ليالي “ويلز” في نهاية الكثير من الأعوام رسمت ذهني برداً قارساً كنت أحاول تفاديه قدر الإمكان. هذه المرة، لم تكن أوروبا وجهة للبحث عن الشتاء أبداً. وكنت أعلم عن تقلبات الطقس في ألمانيا حتى قبل سفري إليها. كنت أعرف من أصدقائي الذين يعيشون هناك عن الأيام المطيرة، والرياح الباردة. لم تهمّني المطار بقدر ما كانت تزعجني الرياح. لم يكن هناك أي شيء يمكنني فعله في تلك الأيام المطيرة سوى المكوث في البيت. والذي يعني قلّة الحركة بشكل مزعج.
حاولت قدر الإمكان تفادي زيادة نوبات الإكتئاب في تلك الفترة. استغلّيت تلك الفترة في تنظيف مخزن الأمتعة الذي تراكمت فيه الكثير من الأدوات المنزلية. شاهدت عدداً كبيراً من الأفلام والمسلسلات التي لم أجد لها وقتاً كافياً من قبل، وأنهيت عدداً من الكتب التي تكاسلت عن قراءتها خلال سفري وتنقلي المستمر. وبالطبع، المزيد والمزيد من دروس اللغة الألمانية.
وكلما تحسّنت الأجواء بشكل طفيف، ذهبنا في رحلات برية بالقرب من ميونخ.
ما المختلف في تجربة العيش في أوروبا
لاحظت أموراً حيوية مختلفة عندما انتقلت إلى ألمانيا، وتختلف إلى حدٍ كبير عن التي اعتدت عليهافي ماليزيا. لم ألاحظ أياً من هذه خلال زياراتي القصيرة إلى ويلز مثلاً، أو حتى الشهر الكامل الذي قضيته في أستراليا، وقد يعود ذلك إلى أنني كنت حينها أزورها كسائحة، ولم أخطط للإقامة فيها. إليكم بعض العادات التي فاجأتني:
المتاجر مغلقة يوم الأحد!
إذا كنت بحاجة إلى بعض المواد الغذائية من السوبرماركت، أو استغلال التخفيضات الشتوية فعليك القيام بذلك خلال أيام الأسبوع فقط. معظم المحلات تغلق مبكراً يوم السبت، وتغلق تماماً يوم الأحد. كنت أحرِص على تفقّد ثلاجتنا يوم الجمعة أو صباح السبت على الأقل، وهذا يعني أنه لو نقصني أي شيء يوم الأحد فعليّ الانتظار حتى يوم الاثنين. الأسوأ من ذلك أن يوافق يوم الإثنين إجازة رسمية، فهذا الأمر ببساطة يعني إغلاق المحلات هذا اليوم أيضاً.
كان علي أن أتعلم جدولة وقتي حول هذا الأمر. اختلف الروتين في ألمانيا أو أوروبا بشكل عام عما اعتدته في ماليزيا. في كوالالمبور مثلاً؛ ستجد جميع محلات البقالة والسوبرماركت مفتوحة طوال الأسبوع من العاشرة صباحاً، وحتى العاشرة ليلاً. كنت معتادة على الذهاب للتسوق متى ما أردت، وهذا ما كنت أفتقِده هناك.
“Kaffee und Kuchen”
حسناً.. لم يكن الأمر بهذا السوء! لاحظت أن إغلاق المتاجر يوم الأحد ساعدني فعلاً على العثور على بعض الوقت للاسترخاء. لم يكن الموظفين فقط في إجازة أسبوعية، بل حتى نحن، العملاء. أحب رؤية العائلات الألمانية تتنزّه خلال يوم الأحد، أو تشرب القهوة بعد الذهاب إلى الكنيسة. لم يكن أي أحد على عجلة في أي مكان يوم الأحد، الجميع هنا يستمتعون بوقت فراغهم. ساعدني هذا على الذهاب في جولاتٍ للمشي مسافات طويلة، حتى أنني لم أكن أكتب أو أعمل يوم الأحد. وإذا نسيت القيام بالتسوق، فلا تزال بعض المطاعم والمقاهي مفتوحة اليوم. وجدت نفسي أذهب كل سبت أو أحد إلى مقهى قريبٍ من البيت، هذه العادة التي غزتني أيضاً، “Kaffee und Kuchen”.
لا تقلق بشأن الصيدليات، حتى وإن كان معظمها يغلِق يوم الأحد. ولكن كل ليلة (بما في ذلك ليالي الأحد) ستجد صيدلية واحدة مفتوحة في المدينة للطوارئ. يتناوبون على القيام بذلك، ويمكنك دائماً استخدام قوقل للبحث عن الصيدلية المفتوحة حالياً.
القطارات والمواصلات العامة في ألمانيا باهظة الثمن!
أحب استخدام المواصلات العامة أو القطارات أينما ذهبت، خاصة في المدن الكبيرة، مثل ميونخ. لم يفصل بيتنا عن محطة القطارات سوى ١٥ دقيقة مشي تقريباً، لكنني لم أستخدمها إلا مراتٍ قليلة حين أضطر إلى الذهاب إلى ميونخ. لمَ؟ لأنها باهظة الثمن، أكثر مما لو ركبنا السيارة أو لو استخدمت دراجة هوائية طبعاً. تكلفة القطار مابين محطتين تقريباً بتكلفة ثلاث يورو للفرد/الوجهة، وتتضاعف التكلفة إذا كنا شخصين. فيما تكلفة استئجار السيارة يومياً لا تزيد عن ٢٠ يورو!
سيتخلف الأمر إذا كنت طالباً، فقد تتمكن من ركوب القطار مجاناً. وفي بعض الأحيان لا تحصل على أي تخفيضات على الإطلاق! قرأت كثيراً عن تمكّن الطلاب من استخدام وسائل النقل العام في ألمانيا مجاناً، ويشمل ذلك القطارات الإقليمية والحافلات والترام في كل مكان. إنه توفير كبير، لأن -كما ذكرت سابقاً- تذاكر القطار باهظة الثمن، ولكن، إن لم تكن طالباً ألمانياً، فلا توجد تخفيضات على أسعار القطار.
جميع الأفلام غير الألمانية مدبلجة
اعتدت على مشاهدة الأفلام الدولية مع ترجمة مكتوبة. واعتقدت أن الدبلجة أمر منطقي فقط في أفلام الأطفال. على الرغم من ذلك، يُدَلبج كل فيلم بشكل مهني واحترافي في ألمانيا. كان من الغريب عليّ أن أرى ممثلي هوليوود المشهورين يتحدثون بأصوات ألمانية مختلفة. لحسن الحظ، يتم الدبلجة باحترافية كبيرة، وغالباً ما تتم مطابقة الأصوات جيداً. ساعدني هذا في مراتٍ كثيرة على تحسين ممارسة اللغة الألمانية بشكل أفضل. وإذا كنت محظوظاً، يمكنك مشاهدة بعض الأفلام الشهيرة في وقت مبكر قبل الدول الأخرى. وفي أحيانٍ كثيرة، تمكّنت من مشاهدة الأفلام الشهيرة بالنسخة الإنجليزية في السينما حينما تعرض في أول أسبوع أو يوم الاثنين.
ربيع أوروبا وألمانيا الأخضر
قضيت جزءاً من الأسابيع الأخيرة في الغابة السوداء. ذهبنا هناك للاحتفال بعيد الفصح مع العائلة. ربما كانت المنطقة الأكثر دفئاً بالنسبة لي.. الكثير من المشي، والكثير من تسلق الجبال. استمتعت أكثر هناك لأننا كنا في قرية منعزلة، لكنها في نفس الوقت قريبة من المناطق السياحية. ثم الإبحار في بحيرة كونستانس التي ذكرتني كثيراً ببحيرة توبا في سومطرة.
رحلة العودة إلى أوروبا في المرة القادمة من المفترض أن تكون في شتائها القارس. ستكون هذه التجربة الأكثر إثارة لي هذا العام والعام المقبل، وسأحكيها بالطبع لاحقاً.
لا تعليق